السبت، 15 ديسمبر 2012

كابوس

أسلم رأسه للوسادة وحاول أن ينام، بعدما أحكم إغلاق نوافذ الحجرة والباب، إنه يحس بتعب شديد، رجلاه متوردتان بفعل كثرة المشي، لم يترك مؤسسة ولا شركة إلا وطرق بابها دون جدوى، بحثه المستمر عن عمل يضمن له البقاء أجهده، شاخ قبل الأوان، أفكار كثيرة تتعارك في ذهنه... فتح عينيه المفتوحتين، ظلام الحجرة دامس لم يسطع النوم، ماذا عساه يفعل في مجتمع لا يرحم، مجتمع لا يعترف بالشواهد ولا السواعد... تمطى كحية تتلظى من حر الرمال وأفرج عن تنهيدة حرى... دس وجهه في الوسادة وحاول أن يتناسى همومه ولو حتى حين، لكنه لم يستطع... أضاء نور الحجرة واتجه صوب مكتبه في ركن الغرفة، تناول جريدته وحاول أن يطالع عناوينها الكبرى، عله يظفر بمراده، لكن صراخ ابن الجيران الصغير يطرق آذانه، لقد أطلق العنان لعويله، إنه يصرخ كلما أحس بالجوع، هو الآخر لم يجد من يهتم لأمره، أمه تعود من عملها متأخرة ومرهقة، فتنام نومة اللحود...ضل يحملق في الجريدة دون أن يعي شيئا، يفرك عينيه الحمراوين، ويقلب صفحاتها إلى أن سمع صوت المؤذن ينادي لصلاة الصبح، فطواها وألقى بها على المكتب، وكأنه كان ينتظر من يخلصه منها. توضأ وارتدى جلبابه الصوفي البني ليقيه زمهرير البرد، وقفل باتجاه المسجد بخطوات بطيئة، وكله أمل في غد مشرق...
اسماعيل ايت عبد الرفيع / أكدز. المغرب

الأربعاء، 5 ديسمبر 2012

هل للشباب دور حتى يشارك...؟


   يكتسي الشباب أهمية بالغة داخل المجتمع باعتباره الركيزة والدعامة الأساس لأي مجتمع إنساني، مكانة تبوبها الشباب بفعل قدرتهم الكبيرة على التأثير في المجتمع إن سلبا أو إيجابا، ما يحتم على المجتمع التعامل مع هذه الفئة معاملة خاصة بهدف احتوائها ومساعدتها على الاندماج والعطاء، وكذا تسخير قدراتها ومؤهلاتها لخدمة الصالح العام..ما يدل على أن العلاقة بين الشباب والمجتمع علاقة تأثيرية تأثرية مبنية على التواصل الفعال، لهذا نلاحظ أن المجتمعات التي لا تبوئ فئة الشباب المكانة اللائقة بها تتخبط في مشاكل جمة تعيق توازنها وتقدمها، والمجتمع المغربي واحد من هذه المجتمعات التي لم تحسن الاستفادة من هذه الثروة البشرية الهائلة التي حباه الله بها، حيث إن ما يزيد على ثلثي شبابه يرزح تحت آفة البطالة، البطالة التي ما فشت في مجتمع من المجتمعات إلا أخلت بتوازنه وعجلت بتقهقره وفنائه. لكن إعمال النظر في هذا الغول المسمى بالبطالة ما دام أنه أبرز مظهر من مظاهر اختلال توازن المجتمع المغربي يدفعنا للتساؤل عن المسؤول الحقيقي عنه، فهل المجتمع هو المسؤول الأول والوحيد عن هذا المشكل ؟ أم أن الشباب الفئة المعنية بالضبط هي المسؤولة عن ذلك ؟ أم أن المسؤولية مشتركة بين أطراف هذه المعادلة ؟
   في الحقيقة لا أحد ينكر أن المجتمع هو المسؤول الأول عن تفشي ظاهرة البطالة بين أفراده، لأنه لم يبادر إلى اتخاذ الإجراءات والاحتياطات اللازمة لتفادي الوقوع في أحضان البطالة المترصدة، من ذلك مثلا: نهج سياسة تشغيلية تراعي العرض والطلب،الحرص على جلب استثمارات خارجية، بناء مؤسسات اقتصادية تساهم في توفير مناصب شغل تكون في متناول الجميع. لكن أيكون المجتمع بهذا قد وفق في القضاء على البطالة ؟
لاشك أن المجتمع في هذه الحالة يكون قد قام بدوره وواجبه، إلا أن هذا لا يعفي الشباب من التجاوب مع هذه المبادرة – إن هي حصلت فعلا نحن نفترض فقط -، معنى ذلك أن هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الشباب للمساهمة بشكل إيجابي في القضاء والتغلب على مشكل البطالة. فكيف يمكن للشباب أن يكونوا فاعلين ومساهمين إلى جانب مجهودات المجتمع في الخروج والتملص من بوثقة البطالة التي لا تحمد عقباها ؟
أغلب شباب المجتمع المغربي ينظر إلى الواقع نظرة سوداوية تشاؤمية تحول دون مشاركته في صنع القرار، نظرة قد تدفع به أحيانا إلى التفكير في التخلي عن الوطن والبحث عن بديل كالهجرة إلى الخارج مثلا، أو العيش في العالم الآخر، عالم اللاوعي، عالم المخدرات والكحول، العالم المثالي – في نظرهم طبعا – ظنا منهم أن من شأن هذا التخفيف من عبئ وتبعات البطالة، بل أكثر من ذلك إنهم يعتبرون هذا هو الحل الأمثل والأنسب وما هو بذلك !
   إن مشكل البطالة مشكل قائم والمجتمع واقع يقتضي من الشباب المواجهة والمشاركة فيه قصد إيجاد وسائل وسبل من شأنها التخفيف أو القضاء الفعلي على هذه الآفة بدل الفرار والخوف من مواجهتها باللجوء إلى العالم الآخر. إن أول خطوة مساعدة للتغلب على مشكل البطالة هي ضرورة تغيير هذه الرؤية السوداوية التي ينظر بها الشباب إلى المجتمع، لابد من إزالة تلك النظارات السوداء التي نداري بها الشمس ونحجب بها أنفسنا عن رؤية الواقع الحقيقي بدل الوهم، صحيح أن ذلك ليس بالأمر الهين لكنه ضروري يقتضي منا المحاولة، والمحاولة إذا كانت مبنية على رغبة وإرادة صادقة، وعزيمة قوية تفتت الحجر وتفجر من الأرض عيونا، لابد أن تثمر وتؤتي ثمارها إن عاجلا أم آجلا، إن الشعور بالداء والإحساس به يساعد على تشخيصه، وتشخيص الداء نصف علاجه، فإذا كان شبابنا يرغب رغبة أكيدة نابعة عن إحساس بالمسؤولية فلا أحد ولا قوة على وجه الأرض تستطيع منعه من ذلك، لأن بهذه الطريقة تذلل الصعاب وتهون، وكل صعب على الشباب يهون كما قيل، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، إذ لولا رغبة وعزيمة أولئك الفتيان ما تم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراده، وكفانا فخرا أنه عليه الصلاة والسلام نصر بالشباب. ويبقى التشبث بالأمل والحياة وطرد الأفكار السوداوية منبع ورافد الرغبة والعزيمة، ولا داعي لربط مصيرنا بمصير الآخرين عن طريق الحكم الافتراضي بوحدة المصير، فلكل مصيره ورزقه، وإلا فنحن نتعارض مع النظام الإلهي الكوني، فلنقل جميعا لا للإحباط والانهيار، الذي لن نجني من ورائه إلا الأمراض النفسية المثبطة للمعنويات.
   بعد ذلك يأتي التكوين وما أدراك ما التكوين، لأنه العدة والعتاد، فشبح البطالة عدو شرس، والتغلب على العدو يقتضي خوض معركة، والظفر بالمعركة رهين بمدى تطور ونجاعة أسلحة المحارب، لهذا فالتكوين الجيد هو العدة والزاد الذي به نستطيع التغلب على ظاهرة البطالة، والحديث عن التكوين يجرنا للحديث عن الكفاءة المهنية، فالتكوين هدفه الأساس جعل الإنسان يمتلك قدرات ومؤهلات خاصة تساعده على أداء مهمة وعمل ما بشكل ناجح، إننا ونحن نتحدث عن الكفاءة لا نقصد بها التدرج في حصد الشواهد، قد تكون الشواهد عاملا مهما ومساعدا على امتلاك كفاءة محددة في مجال معين لأنها مرآة تعكس صورة صاحبها، إلا أن المرآة لا تكون صادقة دائما، وإلا فما معنى أن نجد شبابا حاصلين على الإجازة في الأدب العربي مثلا لا يحسنون التحدث والتواصل باللغة العربية الفصحى، بله كتابة طلب عمل، وقس على ذلك باقي التخصصات، وما معنى كذلك أن نجد نجارا أو بناء يتقن عمله دون امتلاك شهادة مهنية تؤهله لمزاولة هذا العمل. ما يدل على أن الشهادة ليست كل شيء، بل المزية للتكوين الذاتي والحرص على اكتساب التجارب وتنمية القدرات والمهارات الشخصية، لأن كل فرد لا شك يمتلك قدرات خاصة خفية أو جلية تتطلب شيئا من الصقل والدربة، وذلك لا يتأتى إلا بطبيعة نظرتنا للعمل التي تقتضي النظر إليه نظرة حب، فالعمل عبادة كما ينص على ذلك ديننا الحنيف، وكلما استشعر الإنسان وأحس بهذه المسؤولية تفانى وأخلص في عمله وأجاد. إن الاعتماد على النفس واتخاذ الأسباب وإيمان الشباب بقدراتهم ومؤهلاتهم الخاصة عنصر أساس وضروري لتحقيق الأهداف المسطرة سلفا، والتغلب على مشكل البطالة واحد من هذه الأهداف التي يجب أن يعتمد فيها الشباب على أنفسهم أولا لأنها مشكلتهم قبل أن تكون مشكلة الآخرين، لدى لا يجب أن ينتظروا من الآخر أن يعد ويقدم لهم حلولا – وإن كان ذلك من واجباته – بل يجب عليهم أن يسعوا ويبادروا بأنفسهم لإيجاد الحل الأمثل والأنسب لهم، لأن في ذلك حلاوة وإحساس بقيمة الهدف بعد نيله وتحقيقه، كما أن فيه نوعا من الإحساس بالذاتية التي تفتح الشهية للحياة، وطبيعي أن إصابة الهدف – الذي هو دائما هنا القضاء على البطالة – يتطلب من الشباب وضع برامج وتسطير خطط كفيلة بتحقيق ذلك، ووضع البرامج غير مجد إن لم يكن مصحوبا بأفعال تكون على شكل خطوات ومراحل تجزيئية، ليس بالضرورة أن تؤتي أكلها في القريب العاجل بل يكفي أنها ستنتج، أما من لم يكن له برنامج واضح في الحياة فهو ضمنيا في برنامج الآخرين، وهنا منبع الخطورة، إذ كيف يعقل أن نترك للزمن والآخر كامل الصلاحيات لرسم الخطوط العريضة لحياتنا، إن هذا لهو الحمق بعينيه، أين هي شخصيتنا وحريتنا في الحياة إن لم نستطع أو نعرف بل نحسن اختيار الطريق الأنسب لنا لتحقيق ذواتنا.
   معشر الشباب إن الضبابية التي تلف حياتنا من مختلف الجوانب، عائق كبير يجب تخطيه، ويكفي في هذه النقطة أن تسأل أي شاب مغربي عن مخططه وهدفه في الحياة لتكتشف أن الغموض والضبابية سيد الموقف، فلا أهداف ولا برامج مسطرة، بل الشكوى على كل لسان، وكأن مشاكل العالم كله يحملها الشباب فقط، يجب أن لا ننسى أن المشاكل هي التي تعطي للحياة طعما خاصا، فالعيش بدون مشكلة مشكلة أصلا، مع ذلك يتوجب على الشباب رسم خطوط عريضة ومعالم واضحة مسبوقة بنية صادقة لحياتهم.
   يبقى عامل آخر له دخل كبير في تنامي ظاهرة البطالة وسط الشباب، إنه ربط الدراسة بالوظيفة، فالشباب لا يرون في الدراسة إلا وسيلة ضرورية تمكنهم من الحصول على منصب شغل، قد تكون كذلك فعلا، لكن يجب أن لا يكون هذا هو الهدف الأساس والمبتغى من وراء الدراسة، لأن الدراسة لا تكون دائما وسيلة بل يجب أن ينظر إليها على أنها هدف في حد ذاته قبل كل شيء، أي الدراسة من أجل التعلم والعلم والمعرفة بعد ذلك تأتي الوظيفة. أغلب الشباب اليوم من حاملي الشواهد العليا أ الأساسية لم يسبق لهم أن زاولوا مهنة موازية أثناء حياتهم أو مشوارهم الدراسي، عكس ما نشاهده في الدول الأوربية مثلا التي تكون فيها الدراسة نشاطا من الأنشطة اليومية المتعددة للطالب، فالطالب في المجتمعات الأوربية سلاح ذو حدين، أما في مجتمعنا المغربي فبالكاد يكون ذا حد واحد الذي هو الدراسة، والواقع يشهد على ذلك. مما يجعلهم أكثر عرضة للاصطدام بشبح البطالة بعد التخرج مباشرة، والشباب في هذه الحالة يكون كالمرأة الطاعنة في السن في تراثنا الشعبي “المرا إلى كبرات ما تعرف تغني ما تعرف تزغرد”، لا أقصد التقليل من قيمة المرأة أو الشباب، فلكل منهما مكانته الخاصة، لكنها الحقيقة المرة.
    خلاصة القول إن تنامي ظاهرة البطالة في مجتمعنا المغربي مسؤولية الجميع، إنها مشتركة بين أطياف المجتمع ككل، لأن كل طرف لم يقم بواجبه المنوط به، لدى لا نلق اللوم على أحد دون الآخر، وقبل أن نحاسب الآخر لابد من محاسبة أنفسنا أولا، فماذا قدمنا لمجتمعنا حتى نحاسبه وننتظر منه التغيير “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، أنا لا أعاتب الشباب بقدر ما تنتابني حرقة عليهم، لأنهم زهرة الدنيا وركيزة المستقل، ولعل في التضامن والتكافل والرغبة في التغيير بين أطياف المجتمع ومكوناته ككل الحل الأمثل للخروج من الأزمة والآفة الاجتماعية الخطيرة. ومهما كان ظلام الليلي دامسا فلابد أن يسطع ضوء الصباح.
واشنو بغينا من هاد الدنيا غير السلامة وراحت البال.
                                                                                                                      شامان

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

أنا وابني

قال لي ابني وهو حيران بما يحكى ويقرا
كيف كان الله إني قد وجدت الله سرا؟
أسمع الناس يقولون به خيرا وشرا
فأفدني, قلت: يا ابني أنا مثل الناس طرا
لي في الصحة آراء وفي العلة أخرى
كلما زحزحت سترا خلتني أسدل سترا
لست أدري منط بالأمر ولا غيري أدرى

أحسب الله الذي صاغ منم الذرات صخرا
والذي شاء فصارت قطرات الماء بحرا
والذي شاء فم البحر أصدافا ودرا
وأراد الضوء أجرا ما فصار الضوء زهرا
إن هذا الله لما شاء هذا كان "فكرا"

ثم لما نظم الألوان في الأرض زهورا
ورأى أن يعلن الحبب غناء وحبورا
فتمشى في حواشي الأرض سحرا وعطورا
وتهادى في حواشي الأفق أطيافا ونورا
عندما أوجد هذا كان "حسا وشعورا"

من أحب الله جبارا وفتاكا وقاهر
فأنا أهواه رساما، وفنانا، وساحر
وأراهخ في الندى والزهر والهب السوافر
فإذا الأنجم غارت وانطوت كل الأزاهر
وتلاشى كل ما أنشأ وسوى من مناظر
لاح لي في حسنه الأكمل في "ديوان اعر"
                                                                                         أنا وابني إيليا أبو ماضي

تحليل مبسط لقصيدة "غرفة الشاعر" لعلي محمود طه

في سياق التحولات التي عرفها الشعر العربي الحديث تماشيا مع الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بالمشرق العربي، تولد عند ثلة متميزة من شعراء التجديد الوعي بأن وقوف شعراء البعث والإحياء عند حدود تقليد القدماء شكلا ومضمونا، من شأنه أن يسقط الشعر في مهاوي التصنع والتصنيع، ويعود به إلى أتون التكرار والجمود. واستجابة لهذا الوعي تولدت لدى أولئك الشعراء رؤية جديدة إلى الأشياء والإنسان والحياة، فانتظموا في عدة مدارس أدبية ، منها مدرسة "أبولو" التي تبنت الاتجاه الرومانسي إطارا ومرجعا لنظم الشعر، من خلال الاحتفاء بالذات والوجدان، والتطلع إلى عالم آخر من عوالم الطبيعة أو الخيال أو الموت... ويعتبر علي محمود طه، من أبرز شعراء هذه المدرسة، بحيث جاء شعره تجسيدا لتأملاته الخاصة عن الطبيعة والوجود، إلى جانب شعراء آخرين مثل أحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي...فإلى أي حد حافظت القصيدة موضوع التحليل على هذا النموذج ؟ وما مدى تمثيليتها لخطاب سؤال الذات عموما ؟
   الملاحظة البصرية الخارجية للنص تكشف على أنه يبدو مخالفا لما ألفناه في القصيدة العمودية على مستوى شكله الهندسي، فقصيدة "غرفة الشاعر" اعتمدت نظام المقاطع، ونوعت في الأرواء (الكاف، القاف، الباء) وهي ولاشك، ملامح تجديدية في الشعر العربي الحديث.
أما عنوان النص فيوحي دلاليا بدلالات عديدة، حيث لفظة "غرفة" تحيل إلى مكان مخصوص، يوحي بالعزلة والخلود إلى ما يخالج الذات. وهذا ما جعلها مرتبطة بذات الشاعر بقرينة الإضافة، مما يوحي بأن الشاعر يقدم حالة أو لحظة زمنية عاشها في غرفته، مصورا ما ينتابه من مشاعر وأحاسيس وجدانية. وهذا دليل على أن القصيدة تدخل فعلا ضمن تجربة سؤال الذات.
   إن قراءة النص تكشف على أن علي محمد طه يصور لنا حالته النفسية ونظرته للحياة وموقفه منها، حيث استهل قصيدته بتصوير حالته النفسية والجسمية التي أصبح عليها بفعل التفكير والسهاد. حالة سيتولد عنها استغراق الشاعر في همومه وأفكاره في انقطاع تام عن العالم الخارجي، ولاشك أن هذا الانقطاع عن العالم الخارجي ما هو إلا مظهر من مظاهر الكآبة والأسى التي جناها الشاعر من أفكاره وهمومه، في الأخير يقتنع الشاعر بأن الدنيا فانية لا تستحق كل هذه المعاناة، ويدعو نفسه إلى الخلود للنوم والراحة.
في ضوء هذه المضامين، نقف على جملة من المؤشرات النصية، منها: تعدد ضمائر المخاطب في النص (الكئيب، غارقا، رأسك، جفونك، أذبلت لست...)،  وإن كانت كلها حقيقة دالة على نفسية الشاعر، مما أفرز نوعا من التطابق الكلي بين المتكلم في النص ومخاطبه. أما المعجم فقد جاء معبرا عن التيار الذاتي الرومانسي، حيث زاوج الشاعر بين ألفاظ وعبارات دالة على الذات الشاعرة ( الكئيب، الحزين، السهد، الأسى، ارتعاش، شجونك، أحزانك...)، وألفاظ دالة على الطبيعة الخلاص والمنقذ (الليل، حر، الرعد، الإبراق، الدجى، نهار، الخريف...)، كما يحضر الحقل الدال على الغرفة كذلك ( السكون، السراج، ضوء شاحب، الموقد، الصمت...)، ولا يخفى علينا من خلال هذه الحقول الحضور القوي للحزن، مما يعني أنه عنصر مهيمن على نفسية الشاعر، في توحد تام مع عناصر الطبيعة وما يرتبط بها من أزمنة وأمكنة (الليل، الحزن والكآبة، عتمة الغرفة).
   خدمة لهذه المضامين الشعرية اختار علي محمود طه صورا شعرية موغلة في التخيل، مقارنة مع الصور التقليدية في الشعر القديم، حيث أنسنة الطبيعة والانزياح، من قبيل قوله مثلا: (قد تمشى خلال غرفتك الصمت...) الواردة في البيت السادس، والمجاز في الييت الثالث (يد تمسك اليراع...) أطلق الكل وأراد الجزء، فالأنامل هي التي تمسك القلم، (ليس يحنو الدجى عليك...) في البيت 12، إذ شبه الشاعر الدجى بإنسان له أحاسيس ومشاعر فحذف المشبه به ورمز إليه بالحنو،... وبالرجوع إلى المقطع الأول، بشكل كلي نكتشف أنه مشهد يصور الحالة النفسية الحزينة لشاعرنا طه.
   أما من حيث الأساليب فقد جمع الشاعر بين الأسلوبين الخبري والإنشائي، فالأول استعان به للإخبار عن حالته النفسية ومعاناته، مثل (مسلما رأسك / يد تمسك اليراع / أذبلت جفونك...)، أما الثاني فيرتبط بانفعالات الشاعر والرغبة في البوح، من ذلك قوله: (أيها الشاعر الكئيب، آه يا شاعري، هلا فرغت من أحزانك ؟، فقم الآن...).
   وبالعودة إلى إيقاع القصيدة الخارجي، نجد الشاعر بناها على وزن بحر الخفيف (فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن 2)،وقد التزم فيه الشاعر بالعروض الصحيحة والضرب مثلها، كما نوع في القافية بما يتماشى ودفقته الشعورية وتجربته الشعرية، فهي قافية مطلقة حينا، ومقيدة حينا آخر، في محاولة للتحرر من الشكل التقليدي، وتصوير شدة المعاناة، ساعد على ذلك تكراره لبعض الحروف بعينها (أرواء القصيدة، اللام، السين..) على المستوى الداخلي للقصيدة، وهي كلها حروف تمتح من معين الكآبة،، كما تكررت كلمات بالترادف (شجونك، أحزانك / الصمت، السكون / ناضب، ذابل...)، وتوازت الصيغ الصرفية، مثل: (جبين،أنين / طروب، خطوب...)وبعض الصيغ التركيبية ( مازلت غارقا في شجونك، مازلت سادرا في مكانك). ومن المؤكد أن كلا من التكرار والتوازي، قد أديا في هذه القصيدة، فضلا عن الوظيفة الجمالية، وظيفة تعبيرية، حيث تصوير وتأكيد التوتر النفسي للشاعر داخل الغرفة رفقة اليراع.
   صفوة القول، يمكن اعتبار هذه القصيدة من النماذج الشعرية التي تعكس بعمق مضامين خطاب سؤال الذات لدى علي محمود طه، حيث أحدث فيها انزياحا عن أصول القصيدة الكلاسيكية، شكلا ومضمونا، ووصولا إلى المعجم اللغوي الذي يغترف من مألوف الألفاظ ومأثورها، والصور الشعرية التي نزعت نحو الخيال والأنسنة، مما يؤكد بحق، ريادة جماعة "أبولو"، تيار الشاعر، في ترسيخ التيار الذاتي الرومانسي في الشعر العربي الحديث.

الجمعة، 5 أكتوبر 2012

تحليل مبسط لقصيدة "أثريت مجدا" للبارودي

    عاشت القصيدة العربية مرحلة طويلة من الضعف والتدهور والتخلف في عصر الانحطاط، ولما حل عصر الانبعاث، استعادت شيئا من بريقها، وقوتها التعبيرية من جديد، ويعد محمود سامي البارودي – بشهادة عدد من النقاد – أحد الرواد الأوائل الذين كان لهم الفضل الكبير في إحياء الشعر العربي، فقد رد إليه ما كان له في أزهى عصوره من القوة والفتوة، والبهجة والجزالة والأناقة بشاعرية متوقدة، ومعارضة لبعض القدامى، واندماج في الحياة الاجتماعية والسياسية... فهل تجسد قصيدته "أثريت مجدا" هذه المواصفات ؟

     المؤشرات الخارجية للنص توحي بأن البارودي يحاول تصوير تجربته في المنفى، وإبراز تطلعاته وانتظاراته.  والمتأمل في هذه القصيدة، يدرك من الوهلة الأولى أن شكلها لا يختلف في شيء عن القصائد العربية القديمة، فهي من الشعر العمودي التقليدي الذي يقوم على نظام الشطرين المتناظرين، ووحدة الوزن والقافية والروي.
كما أن قراءة الأبيات (13-15-19) على سبيل المثال، تفضي إلى استنتاج مفاده أن ثمة مواقف مختلفة وأبعادا متعددة، ومعاني متنوعة، تختزل تجربة الشاعر في المنفى وتعلن عن أحواله النفسية وانفعالاته الداخلية ومواقفه من الحياة والناس. وهذا يعني أن مضامين القصيدة ليست واحدة، وإنما هي متنوعة، وتلك سمة من سمات القصيدة الكلاسيكية.
وبالعودة إلى القصيدة نجد شاعرنا استهلها بذكر الدمع والمكابدة من جراء حرقة المنفى في جزيرة سرنديب، وما ترتب عنها من إحساس ظالم بالغربة من جهة، واشتياقه إلى الأهل من جهة ثانية. لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن شوقه إلى وطنه وأهله، لدرجة لم يعد معها قادرا على الكتمان، مشيرا في الآن ذاته إلى أن ذلك لم ينل من عزيمته وإرادته، ومشيدا بخصاله الحميدة. في الأخير يورد الشاعر انتظاراته في شكل حكمة مأثورة مفادها أن الدهر إذا غدر به، فإن الليالي لابد ستصفو يوما، فهي لا تبرح على حال.
بناء على ما سبق يتضح أن القصيدة لا تنطوي على موقف نفسي واحد، بل هي سلسة مواقف تختزل تجربة الشاعر. وتجسد قيمه الأخلاقية الحميدة. وهذه سمة أخرى من سمات القصيدة البعثية.
خدمة لهذه المضامين وظف الشاعر حقلين دلاليين هما، حقل المعاناة النفسية (دمع، مكتئب، مكابدة، لواعجه، غربة، لا رفيق، كدرتها...)، وحقل الصبر والتفاؤل (ملكت حلمي، صنت عرضي، تصفو الليالي...) والملاحظ أنه اتخذ من الصبر والتفاؤل سبيلا لتجاوز معاناته النفسية جراء المحنة.
وبالعودة إلى الجانب الفني للقصيدة نستشف أن البارودي ظل محافظا على التصوير الذي نهجه القدماء من توظيف التشبيه، نحو (كأن قلبي إذا هاج...طائر في الفخ)...، والمجاز (أثريت مجدا/ ملكت حلمي / صنت عرض...)، وكلها صور متصلة بأحاسيسه ومشاعره، ومعبرة تعبيرا صادقا عن تجربته وعاطفته، بلغة بليغة قريبة المأخذ وواضحة الدلالة. كما أنه كان حريصا على أن يختم قصيدته بحكمة مأثورة مثل ما كان يفعل أسلافه من فحول الشعراء في القديم.
معاني حاول البارودي الكشف عنها بأساليب تعبيرية تتأرجح بين: الشرط: مثل (لولا مكابدة الأشواق...)، والنداء، مثل: (فيا أخا العذل لا تعجل بلائمة)، والاستفهام: مثل: ( كيف يملك دمع العين مكتئب؟)... وهي أساليب تعكس حالته النفسية المضطربة في المنفى، حيث المعاناة والشوق إلى الوطن. ومما زاد القصيدة قوة وحيوية نبرتها الإيقاعية، إذ اختار لها الشاعر بحر البسيط، في التزام تام بوحدة الوزن والروي والقافية، ولاشك أن اختياره لحرف الباء رويا مطلقا كان موفقا  نظرا لما يحمله هذا الحرف من دلالات مختلفة (المعاناة والإحساس بالغربة والاعتزاز بالنفس). وقد يتردد هذا الحرف في بعض الأبيات ترددا ملفتا للانتباه فيضفي على القصيدة رنة متوازية، يزيدها رونقا تمثل الشاعر للتوازي بمختلف صيغه وأنواعه كما هو وارد في الأبيات (14-16-18).

     ختاما، كشف البارودي لتجربته وأحاسيسه تجاه وطنه في المنفى بهذا الشكل الذي رأيناه، لم ينسه الوفاء لتقاليد القصيدة العربية القديمة، والإخلاص لعمود الشعر العربي ولأصوله المحددة، واستلهام المعاني الشعرية الأصيلة، إلا أن هذا الحكم لا يعني أنه كان مقلدا تابعا وحاطب ليل، وإنما كان يحاول فقط إحياء إرث شعري متميز، وبعث روح جديدة فيه، مواكبة لعصره وتطلعات أقرانه.

الأحد، 30 سبتمبر 2012

ابني والفصحى


استَيقظتُ من قَيلولَتي كالعادة، تَوضَّأت بماء بارد؛ لأستردَّ نشاطي وحيويتي، فحرارةُ الجو تَجعل مني كائنًا رخوًا، بعد الصلاة رَفعتُ من عقيرة "المرناة" صِلتي الوحيدة بالعالم الخارجي، كانت المُذيعة "ترطن" بمُفردات غير مفهومة، مع ذلك حاولتُ الاعتماد على الصُّور لفهْم الرسالة، زوجي مُنشغِلة في المطبخ بإعداد الشاي، أما ريَّان الصغير فهو يَغطُّ في نوم عميق، ولعلَّه كبِر في أحلامه، وأصبح طبيبًا مشهورًا، إنَّه مهووس بهذه المِهنة، وطالما ارتدى وزرتي البيضاء، وحاول الإنصات لدقَّات قلب أخيه نجيب، في لعبته المفضَّلة: الطبيب والمريض.

عمرو، عمرو، افتح الباب، هل أنت أصمُّ؟

كانت تُناديني من المطبخ أنا الغائب الحاضر، صوتُ "المرناة" المرتفع أَنساني العَالَم الخارجي بما فيه، فتحتُ الباب على عجَل؛ فنجيب لا يُطيق الانتظار ، وما أنْ رآني حتى هتَف:
مساء الخير يا أبي، وهو يَطبع قُبلة على ظَهْر يدِي اليُمنى، وابتسامة عريضة تَعلو مُحيَّاه الصغير، محفظته الثقيلة على ظهره أَنهكته، فدَلَف إلى الداخل وهو يتخلَّص منها.
أهلاً بُني.

أَغلقتُ الباب وعدتُ لإتمام نشرةِ الأخبار، كان نجيب يجلس إلى جانبي لما نَدتْ عنه ضحكة لم يَستطع كتمانها، فما كان منِّي إلا أنْ استفسَرتُ عن السبب، فأجابني بسخرية:
ألَم تَسمع ما قالتْه هذه المذيعة يا أبي؟‍!

أدركتُ الآن أنَّه كان يَسخر من لغتِها الغريبة، ولم يكتف بذلك بل بادَرني بالقول:
أبِي، زميلي في الفصل زيد يتكلَّم بعربية فصيحة أحسن من هذه المذيعة، إنه لا يُخاطبنا - نحن التلاميذ والأساتذة - إلا بلغة عربيَّة فصيحة، ما جعَل الجميع يتعجَّبون ويَعجبون به وبفصاحته، الكلُّ ينعَته بالفصيح، إنَّه ظاهرة في مدرستنا يا أبي!

أثارني الموضوع فسألتُه محاولاً إشباع فضولي:
هل تفهمون كلامه؟
كيف لا نفهَمه يا أبي، وهو يتكلَّم كلامًا واضحًا فصيحًا؟

ردُّه المفاجئ والسريع جعلني أَشعر بنوع من الفَخر، أن أرى ابني في هذه السنِّ المُبكِّرة يُميِّز بين العامية والفُصحى، لكن هذا الفخر ممزوج بعتاب داخلي، فأنا متأكِّد بأنَّ لسان حال نجيب، وهو يستمع إلى صديقه بإعجاب ونَهَم شديدَين، يُردِّد: لماذا لم تُعلِّمني يا أبي اللغة الفصحى، وأنت أستاذ فيها، وقادر على تدريبي عليها استعمالاً؟

خشيتُ أن أكون قد أَثقلتُ عليه بنظراتي البَلهاء وفمي المُترَع، بحمْل شيء من شجوني، وأنا أسمع وأرى لُغتي، ذاتي، وهُويتي، تُقطَّع أوصالاً، وإرْبًا إرْبًا، فاستدركتُ وسألته:
أتُحبُّ أن تتكلَّم مِثل زميلك هذا بالعربية الفُصحى؟

ودون أن يُطيل التفكير، انقضَّ على سؤالي مُجيبًا، وعلامات الإصرار بادية على وجْهه:
وكيف لا يا أبي؟ إنَّه حُلم كل زملائي في المدرسة، فزيد حديث الصباح والمساء، إلا أنَّه أردَف بعدما لاحَظ على مُحيَّاي علامات الرِّضا:
لكن كيف يُمكن استعمالها عندما أكون في زيارة أبناء خالتي، وجيراني، وهم جميعًا لا يتكلَّمون الفُصحى؟

أجبته والحَيرة تَنهشني: الأمر بسيط بُني، ما دمتَ تَفهم ما يقولون، فإنَّهم سوف يفهمون كلامَكَ من غير عناء.
من يدري؟ فأنا لم أُجرِّب يومًا... ردَّ مُقاطِعًا.
وربما قلَّدوكَ فيما بعد، فيتعلَّمون الفصحى بسببك.

ابتسَمَ لفِكرتي التي أصبحتْ فِكرته، واتَّفقنا على ألا نتحدَّث داخل المنزل إلا بالفُصحى، مع مرور الأيام قوبِلت تَجرِبتنا بشيء من الاستغراب من قِبَل زَوجي، التي لم تكن تُجيد الفصحى بصورة كافية، ولم تَخلُ التجرِبة في بعض الأوقات من مواقف طريفة ومُضحِكة.
شامان

رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/Social/0/41138/#ixzz278uZHjEe

الخميس، 28 يونيو 2012

أروع ما قيل في الحب

إلـى تلامـيذ البـاكالـوريـا...

    بعد تفكير طويل أجد نفسي مضطرا لكتابة هذه الكلمات الموجزة على شكل همسات خفيفة، وكلي أمل أن تجد آذانا صاغية، وقلوبا واعية.. 
  أما قبل فللنجاح قيمة كبيرة في حياة الإنسان، إذ يساعده على تحقيق توازنه في الحياة، كما يجعله يحس بسعادة كبيرة، لأنه دلالة على تحقيق الإنسان لذاته وكينونته. ويبقى النجاح في الباكالوريا واحدا من تلك الإنجازات الهامة، لأنه نجاح بطعم خاص، يظل أثره وصداه مرافقا للإنسان طوال حياته، أعظم به من نجاح وأكرم به من ناجح. لكن ماذا بعد نيل شهادة الباكالوريا ؟
  كثيرة هي التساؤلات التي تراود الناجحين بعد النجاح مباشرة، وعديدة هي الآفاق التي تفتح أمامهم، ما يجعلهم يصابون بحيرة ما بعدها حيرة... نعم فالباكالوريا محطة أساس تعطي للمتعلم دفعة قوية، وتضخ في شرايينه دماء جديدة، خاصة إذا حصل عليها بمعدل متميز، إذ يبذ أقرانه، وتزداد ثقته بذاته... لكن مع ذلك لا ينبغي أن يغتر الإنسان بنفسه وبهذا الإنجاز، لأننا إذا نظرنا إليه من زاوية نجده إنجازا يستحق التشجيع، وإذا نظرنا إليه من زوايا أخرى نجده عاديا ومطلوبا في الآن ذاته، فهو مطلوب لضمان الاستمرارية التعليمية، ومطلوب لتعويض مجهودات الأسرة، الدعامة والسند والعزاء الوحيد للتلاميذ في السراء والضراء، ومطلوب لرد بعض المعروف، بإدخال الفرحة في قلوب من يهتمون لحالك (الأسرة)، ورفع رؤوسهم عاليا داخل محيطهم.. لن أنكر أنني التقيت بعض آباء وأولياء التلاميذ الذين حصلوا على الباكالوريا، ودخلت معهم في دردشة خفيفة مقصودة، وكم كانت سعادتهم وفرحتهم كبيرة، فرحة خفية ومتوارية، ربما لم ولن يستشعرها أبناؤهم، بحكم بعد المسافة (الفكرية) بينهم، وغياب التواصل الذي نراه أساسا في مثل هذه الحالات وغيرها، فالتواصل أساس العلاقات البناءة والهادفة..
إذا كانت الباكالوريا قد حظيت منذ القدم بمكانة خاصة، فهي كذلك اليوم أو أكثر، وإن كان المستوى متدنيا بعض الشيء، فهذا لا ينقص أو يحط من قيمتها أبدا، واسأل عن ذلك من لم تسعفه الظروف لنيلها..
   إننا ونحن نكتب هذه السطور التي اعتبرناها منذ البدء مجرد همسات خفيفة لا نقصد بها توجيه الناجحين إلى تخصصات معينة ومحددة، بل الهدف مساعدتهم على اختيار الأفضل والأحسن لهم لاستكمال دراستهم في أحسن الظروف والأحوال، معتمدين في ذلك على الله تعالى وتجربتنا المتواضعة في هذا الباب، فالأخطاء التي وقعنا فيها نحن يجب عليك أنت أيها الناجح الاستفادة منها بتفاديها وتجنبها، عن طريق اختيار أقرب التخصصات والشعب إلى نفسك، التخصص الذي ترى نفسك أهلا له، وتشعر براحة كبيرة فيه، لأن الدراسة رغبة وحب قبل كل شيء، يحسن بكم اختيار التخصص والتوجه الذي ترون أن هناك ميلا وانجذابا خاصا لنفسكم إليه، لا أقول شعبة الآداب أو الدراسات الإسلامية شعبة ضعيفة ليس لها آفاق أو العلوم أو اللغات أو أي شيء من هذا القبيل، إن لكل تخصص قيمته وأهميته ومكانته، وهذا ما يجب أن ندركه ونؤمن به، لكن المشكل الأساس في الرغبة والجلد الذي يتطلبه كل تخصص.. إن لكل تخصص مزاياه ووسائله، فإن رأيت نفسك تمتلك وسائل ومفاتيح تخصص ما فعليك به، متسلحا بالرغبة والعزيمة والعمل الجاد، ولا شك أنك ستصل، نعم ستصل، أتعلم لماذا؟  لأنك ترغب في ذلك، وهذا هو الأهم. كم من طالب اختار تخصصا ما فقط لأن صديقه اختاره، أو لأنه يرغب في أن يقال إن فلانا يدرس التخصص الفلاني، إن كان الأمر كذلك فقد قيل، فماذا عنك أنت ؟ هل أنت فعلا أهل لذلك التخصص ؟ ألن يكون ذلك سببا مباشرا في فشلك الدراسي، بالرسوب تلو الرسوب ؟

   إن الحياة تجارب واختبارات علينا معرفة الطرق والأساليب الناجحة والناجعة للوصول إلى بر الأمان..
  مسألة أخرى مهمة أرى من اللازم ذكرها، وهي أنه يجب بل يتوجب علينا ألا ندرس من أجل الوظيفة والعمل، لأن ذلك أبرز وأهم مطبث للإنسان في مشواره العلمي الدراسي، بل يجب أن ندرس ونتعلم بهدف التعلم ومحاربة الجهل، أخطر عدو للإنسانية، لأنه كلما درس الإنسان وتعلم إلا علم وأيقن أنه لم يكن يعرف شيئا من قبل، وهذه ميزة الحياة، وسر من أسرارها.
  إن التخصصات الدراسية كلها طرق وسبل تؤدي إلى نفس المكان، إنها في الأخير تساعد على عبادة الله تعالى على الوجه الذي يجعله راضيا عنا، كما أنها تساعد الإنسان على الرقي والسمو درجات في هذه الحياة، فلا فضل لواحدة منها على الأخرى، وإن كانت الدولة تحرص وتعمل على تلميع صور بعض التخصصات في نظر طلابنا، قصد الاستجابة لمتطلبات الحياة، وإلا فجميعها يجعل الإنسان يصل إلى أهداف كبرى وسامية، إن لم يكن لا قدر الله على المستوى الاجتماعي بالحصول على وظيفة ومكانة داخل المجتمع، فعلى المستوى الشخصي، لأنه كما قال تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".
  ختاما أحب أن ألفت نظر طلابنا إلى التكوين المهني، يجب عليكم ألا تغيبوا هذا التخصص، وتلتفتوا إليه لأنه هو الآخر أصبح في عصرنا الراهن يحظى بمكانة خاصة.
    أخيرا أؤكد مرة أخرى أن العزيمة والرغبة الجادة التي يجسدها العمل أساس ومفتاح كل شيء .
والله الموفق لما فيه الخير
 خطه اسماعيل عبد الرفيع           
تمزموط في02/08/2009.


قالوا عن القصة المغربية

القصة القصيرة المغربية، كانت في منطلقها استجابة أدبية حداثية لتحول تاريخي وسوسيوثقافي عميق إعترى المجتمع المغربي٬ ومس بنيته التقليدية المغلقة إثر الرجة الإستعمارية الموقظة من سبات و المحركة من ثبات. كما كانت من نحو آخر٬ ثمرة لمثاقفة مزدوجة، ويتعلق طرف منها بالغرب، ( فرنسا على الخصوص)، ويتعلق طرفها الثاني بالشرق العربي (مصر على الخصوص)٠
.........
وبعبارة محددة، فقد مس هذا التحول في الأساس كلا من تيمات thémes ومضامين القصة القصيرة المغربية من جهة، كما مس أنساقها و أشكالها من جهة ثانية. أي مس العروض القصصي الكلاسيكي في الصميم، على نحو يماثل و يشاكل التحول الذي مس العروض الشعري الكلاسيكي، ومس القصيدة المغربية الحديثة، ذات الصلات الحميمة بالقصة القصيرة، حتى أضحت القصة في بعض الأحيان،قصيدة. كما أضحت القصيدة قصة، لدى كثير من القاصين و الشعراء الذين عقدوا مايشبه القران بين هذين النوعين الأدبيين.
وهكذا يمكن القول بأن العقود الستة الماضية قد شهدت تحولا متمرحلا على مستوى "البارديغم" paradigume أو الهاجس القصصي .
وبصيغة توضحية مجملة و موجزة، يمكن القول بأن الهاجس الأساس الذي شغل بال، القصة القصيرة المغربية وغذى مادتها الحكائية، خلال الأربعينيات والخمسينيات، كان هاجسا وطنيا ونضاليا، إكتسى أقنعة وأشكالا مختلفة، مع بساطة العروض القصصي وتلقائية أدائه وبنائه .
وفي الستنيات و السبعينيات، وهي مرحلة اختمار واستواء القصة المغربية، كان الهاجس الذي شغل بالها وغذى مادتها الحكائية، هاجسا إجتماعيا وسياسيا ساخنا٬ بحكم السياق التاريخي المتوتر و الملغوم للمرحلة، وهي المرحلة الموسومة مغربيا ب ( سنوات الجمر و الرصاص) .
أما في الثمانينيات و التسعينيات، التي شهدت ولادة أجيال و أسماء قصصية جديدة، كما شهدت إنحسارا و جزرا على مستوى التطلعات و الطموحات السياسية و الإديولوجية السابقة، فقد أضحى الهاجس الذي يشغل بال القصة القصيرة ويغذي مادتها الحكائية، حين تحضر و تتأتى هذه المادة ، هاجسا ذاتيا و فرديا، ينحو منحى غنائياـ منولوجيا يهتم بهموم الذات ومعاناتها الخاصة من جهة، وبتفاصيل الحياة اليومية وأشيائها الصغيرة من جهة ثانية، جاعلا من الكتابة القصصية تجربة أو صبوة إبداعية خالصة، لا علاقة لها بالسياسي و الإديولوجي المباشر٬ إلا على مستوى الدلالة التأويلية التي يمكن أن يستخلصها القارئ ـ المحللل. ذلك أن الأجيال الجديدة من القاصين و القاصات وفدت على الساحة، بعد أن سكن فيها وطيس الإيديولوجيا وخفتت لهبتها، وإن بقيت هذه الساحة مشحونة بتناقضاتها وألغامها، جمرا في رماد .
......
وخلاصة القول التي نتأدى إليها، أن القصة القصيرة المغربية، قد شهدت في الآونة الأخيرة، سواء على يد الأجيال الجديدة أو بعض الرموز من الأجيال القديمة ـ المخضرمة، تحولا عميقا طال مضامينها كما طال أشكالها. وأهم مظاهر هذا التحول ومؤشراته، تكسير القصة الجديدة للعروض القصصي بوحداته الموبسانية المعروفة ( مقدمة / عقدة / تنوير) وعدم أو قلة احتفالها بالمادة الحكائية و الحبكة القصصية، وأيضا عدم أو قلة احتفالها بالأسئلة والهموم الإجتماعية و السياسية الكبرى، التي تأخذ بمخانق المجتمع، وانكفاؤها على "الدوائر المغلقة" و" الأشياء الصغيرة " وجنوحها أحيانا إلى الغموض والتباس الدلالة، واندياح الجملة السردية و الوصفية على العواهن بلا ضوابط حكائية ملموسة و متلاحمة، وبلا تفرقة أوتمييزبين السردي والشعري، وبسيولة لغوية متحررة تفتقد الكثافة والتركيز، علما بأن الكثافة والإقتصاد والتركيز هي من الشروط الأساسية لكل كتابة قصصية جيدة. وحسب عبارة دالة لرائد القصة القصيرة تشيكوف ف ( إن فن الكتابة يتكون بالإضافة إلى الكتابة الجيدة من حذف كل ما هو غير جيد من النص بمعنى آخر ، التطريز على الورق ) .
تلك صورة مرفولوجية ـ كرونولوجية موجزة عن القصة القصيرة في المغرب. تلك صورة أولية عن المشهد القصصي في المغرب. وهو مشهد مسكون في عمقه وقرارته بكل الهموم و الهواجس الثاوية في قعر الوجدان العربي ، من المحيط إلى الخليج .
التحية للقصة القصيرة ، طفلة السرد المشاغبة ، و التحية التقديرية للقصة القصيرة العربية ، مرآة بلورية فاتنة ٬ تجوب الشوارع و الدخائل العربية.

منقول للفائدة عن نجيب العوفي (المشهد القصصي في المغرب (مقاربة كرونولوجية)) موقع طنجة الأدبية

الأربعاء، 27 يونيو 2012

التلاميذ وهول الساعات الإضافية...

"والله أوما درت السوايع لا نجحت"...
بهذه العبارة المركزة والموحية فضلت شيماء الرد على سؤال والدتها للا السعدية التي استشاطت غضبا : "علاش مانجحتيش، أويلي أويلي آش غانكول لباك إلى جا أوسولني..."
نطقت بها الفتاة وقلبها يعتصر ألما لأنها الوحيدة التي لم تنجح من بين صديقاتها الثلاث، لقد ضاع الموسم الدراسي وتبددت معه الآمال، بعد سنة من الكد والجهد، شيماء أصبحت ضحكة في الزنقة، شيماء التي طالما عرفت بالجهد والمثابرة داخل الدوار والمؤسسة.
لم تصدق الأسرة في البداية أن ابنتها رسبت، إذ لا يعقل أن تنجح "رابحة" ابنة الجيران وهي أقل مستوى من ابنتنا وترسب شيماء، غير ممكن، لابد أن في الأمر سرا...
هل كانت شيماء تتغيب دون علمنا بذلك ؟ يتساءل الأب بمضض...
لغز محير لا يمتلك مفتاحه إلا شيماء الموقنة بأن السبب الرئيس في رسوبها هو رفض والدها منحها مصاريف وتكلفة الساعات الإضافية...
السي المعطي الذي يشتغل ليل نهار، يكد ويجتهد لتوفير القوت اليومي لخمسة أطفال شيماء أكبرهم، لم يفكر يوما أنه سيدفع لابنته مقابلا للساعات الإضافية، لعلمه المسبق أن "المخزن" يدفع للأساتذة أتعابهم... فلم إذن ينضاف هذا العبء إلى أعبائه الثقيلة ؟
أما لو علم هو وزجه للا السعدية أن أساتذة شيماء هم أنفسهم أصحاب الساعات الإضافية فسيجن جنونه، وربما يكون ذلك سببا مباشرا لإحجامه عن إرسال ابنته إلى المؤسسة، بعدما طال انتظار الزوج الذي قد يأتي أو لا يأتي لإراحته من تكاليف تعليم ابنته المسكينة...
شامان
المركز التربوي الجهوي
مراكش
2009

السبت، 23 يونيو 2012

تحليل مبسط لقصيدة "في جبال الشمال" لنازك الملائكة لتلامذة الباكالوريا

إذا كانت حركة البعث والإحياء قد اقتصرت على محاكاة الأقدمين والسير على منوالهم عن طريق الاقتداء بأشعارهم شكلا ومضمونا، فإن حركة الشعر الحديث جاءت رد فعل على هذه الحركة، لتكسير بنية القصيدة وتحطيم القيود الفنية الموروثة، بغية تلبية طموحات الأمة العربية، خصوصا بعدما حلت بها نكبة فلسطين 1948 وما رافقها من نكسات.
إذن فما هو الجديد الذي جاءت به حركة الشعر الحر ؟
وما هي خصائص هذه الحركة انطلاقا من القصيدة ؟

بعد اللمحة الأولى للنص وتفحص عتباته نفترض أن الشاعرة ستتحدث عن معاناتها في ديار الغربة، بعيدا عن موطنها الأصلي وهذا يبدو جليا في النص إذ افتتحت نازك الملائكة قصيدتها بأسلوب أمر (عد) وأعادته مرارا وتكرارا داخل القصيدة لعدم تحملها بعدها عن العراق وحنينها إليه، الأمر الذي جعلها تسهب في الحديث عن الطبيعة والغربة، اللتان تشكلان الحقلين الدلاليين للنص، فالألفاظ الدالة على الطبيعة هي (جبال الشمال – الليالي – الرياح...) والألفاظ الدالة على الغربة (عد بنا للذيم تركناهم – شبح الغربة القاتلة...)، هي إذن حقول جاءت لخدمة المضمون الأساس للقصيدة، وتجمعها علاقة وطيدة، فهي تصور لنا الحالة النفسية للشارعة، جراء بعدها عن بلد النخيل، حيث الوجوه الرقاق والأذرع الحانية، وقد صاغت الشاعرة مضامينها في قالب فني أضفى رونقا جماليا على القصيدة، من قبيل الصور الشعرية، كالتشبيه الذي نجده في السطر الشعري السابع، حيث شبهت قوة وشدة عواء الذئاب في بلاد الغربة بصراخ الأسى، الذي ينفجر من داهل قلب الإنسان، سيما عند شهوره بالحزن. والإستعارة، التي وظفتها لتبرز لنا مدى اشتداد الغربة في جبال الشمال، فأصبحت اصوات الرياح تهب بقوة، حتى بلغت درجة النواح، فضلا عن أسلوب الأمر، الذي حضر بقوة داخل النص منذ بدايته إلى نهايته، والشاعرة لا تأمر أحدا، لكنها ترجو عودة القطار عسى أن يعيدها إلى بلدها. ولعل ما يستوقفنا في التحليل الفني لهذا النص استحالة تفكيكه إلى أجزاء، فنازك الملائكة تصف لنا الغربة القاتلة التي تعيشها في جبال الشمال، من حزن وظلام، تقضي أيامها في شوق دائم إلى بلدها، الذي يخلو من المعاناة، وحيث القلوب الصافية تحت ظلال النخيل. علاوة على ذلك، فشكل القصيدة ينبهنا إلى غياب نظام الشطرين، بحيث حل محله نظام السطر، والمقطع الشعري، مما يجعلنا نقف عند الإيقاع الذي اعتمدته الشاعرة في القصيدة، فنجدها من حيث الإيقاع الداخلي توسلت بتكرار بعض الكلمات (في جبال، عد بنا، كل كف، فهناك، انتظار...) بهدف ترسيخ المعنى في ذهن المتلقي وتأكيده، أما من حيث الإيقاع الخارجي، فالشاعرة نظمت قصيدتها على البحور الخليلية، وعمدت إلى تنويع القافية والروي، تبعا للدفقة الشعورية، تلك إذن أهم خصائص شهر التفعلية انطلاقا من القصيدة.


صفوة القول، إن نازك الملائكة وفقت إلى حد ما في تجسيد خصائص الحركة التجديدية ، حيث تناولت موضوعا جديدا ومخالفا للمواضيع المعهودة، وتمردت على مقاييس الشعر القديم، وهذا دليل قاطع على حداثة القصيدة، التي قدمتها لنا بلغة سهلة تتخللها صور حسية تجريدية.


القصيدة:
تقول الشاعرة نازك الملائكة في قصيدة بعنوان: "في جبال الشمال"
عُدْ بنا يا قطار ْ
فالظلام رهيبٌ هنا والسكونُ ثقيلْ
عُدْ بنا فالمدَى شاسعٌ والطريقُ طويل
والليالي قِصارْ
عدْ بنا فالرياحُ تنوحُ وراءَ الظلالْ
وعُواءُ الذئابِ وراءَ الجبالْ
كصراخِ الأسى في قلوبِ البشرْ
عُدْ بنا فعلى المنحدَرْ
شَبحٌ مكفهرٌّ حزينْ
تركتْ قَدَماهُ على كلِّ فجرٍ أثرْ
كلُّ فجرٍ تقضّى هنا بالأسى والحنين
شَبحُ الغربةِ القاتلهْ
في جبال الشّمالِ الحزينْ
*****
عُدْ بنا للجنوبْ
فهناكَ وراءَ الجبالِ قلوبْ
عدْ بنا للذينَ تركناهُم في الضبابْ
كلُّ كفٍّ تلوِّحُ في لهفةٍ واكتئابْ
كل كفٍّ فؤاد
****
عُدْ بنا يا قطارَ الشمالْ
فهناكَ وراءَ الجبالْ
الوجوهُ الرقاقُ التي حجَبَتها الليالْ
عُدْ بنا, عُد إلى الأذرُعِ الحانيهْ
في ظلالِ النخيلْ
حيثُ أيامُنا الماضيهْ
في انتظارٍ طويلْ
وقفتْ في انتظار
تتحرى رجوعَ القطارْ
ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت 1997، ص: 126 وما بعدها (بتصرف)

تحليل مبسط لقصيدة "سرنديب" للبارودي لتلامذة الباكالوريا


لقد عرف الشعر العربي ازدهارا كبيرا خلال المرحلة الجاهلية، إلا أن تظافر جملة من العوامل أسهمت في ركوده، خصوصا وأنها تزامنت مع عصر الانحطاط، فظهرت نخبة من الشعراء للنهوض بهذا الموروث. وكان البارودي إمامهم في نظم القصيدة سيرا على خطى الشعراء الفحول، واتخذوا من الشكل القديم للقصيدة نسقا يقتدون به ومثلا يستوحونه.

فما هي مضامين القصيدة ؟ وما خصائصها الفنية والجمالية ؟ وإلى أي حد استطاعت تمثيل اتجاه البعث ؟

انطلاقا من قراءتنا الفاحصة للديباجة والبيت الشعري الأول يتضح لنا أن البارودي سيتحدث عن معاناته جراء نفيه إلى جزيرة سرنديب بعدما رأى طيف ابنته سميرة. ومن المعلوم أن الشاعر استهل قصيدته برؤيته لطيف ابنته بعد زمن طويل من الفراق حتى بدأ يتخيل طيفها. ولكن ذلك لم يمنعه من الافتخار بنفسه ومواجهة الصعاب خاصة في الأبيات الأخيرة للنص.

خدمة لهذه المضامين وظف البارودي حقلين دلاليين اثنين، هما حقل الحنين والشوق، وتدل عليه في النص (طيف- نزوات الشوق – حاد وزاجر – تمثلها الذكرى...)، وحقل الافتخار والاعتزاز بنفسه (ملكت عقاب – أنا المرء لا يثنيه – صبرت على...). وهكذا نجد أن الألفاظ جاءت متقاربة، لأن الشاعر زاوج بين الشوق والافتخار بسبب نفسيته التي أضحت تتأرجح تارة بين الحنين إلى أهله، وتارة بين استرجاع بطولاته وفخره بشهامته.
وللتأثير في نفسية المتلقي استعان الشاعر بجملة من الصور البيانية، ذات وظيفة تزيينية، كالتشبيه في البيت الثالث، حيث صور لنا شدة فراقه لها حتى أصبحت ذكراها ملازمة لمخيلته، وكأنما ينظر إليها من الأعلى، لكنه عاجز عن الوصول إليها. كما يمكننا ملاحظة هيمنة الأسلوب الإنشائي على الأسلوب الخبري ويتمظهر ذلك في البيت السابع والثالث عشر، حيث يتساءل وبشكل استنكاري عما يقوله الأعداء بهتانا في عرضه، ويستفهم عن عدم ثبات هذا الزمان وأناسه، فمنهم أسياد دارت عليهم الدوائر. وأسلوب النداء، قائلا : "فمهلا بني"، فهو يحاول ترشيد البشرية بأن هذه الدنيا ما هي إلا فترة إلى حين. وختم نصه ببيت حكمي، يوجهه لنفسه لتقوية عزيمته، ولنا قراء لكي نعي مدى تغير الحياة وانقلابهاـ لكن سرعان ما تتوارى تلك المعاناة خلف تحقق النص، وموازاة مع ذلك استنجد الشاعر بأسلوب التكرار، فنجده كرر كلماته (طيف، الصبر، العرض،...) وأسلوب التوازي الصوتي، إذ وزع عناصر البيت العاطفي توزيعا هندسيا متكافئا، وذلك كله بهدف ترسيخ المعنى في الذهن، وإضفاء قالب فني على القصيدة. القصيدة التي نظمها على بحر الطويل تماشيا مع غرضها، إلى جانب تمثله لنظام الشطرين المتوازيين، ووحدة القافية والروي.

من خلال سبر أغوار النص يتضح لنا أن البارودي نهج نفس المنهج الذي سار عليه الشعراء القدامى شكلا ومضمونا، وهذا دليل على رغبته في النهوض بالقصيدة وبعثها من جديد. فعلى مستوى المضمون ظل الشاعر وفيا لغرض المعاناة والافتخار، وعلى مستوى الشكل استوقفتنا لغة تمتح مفرداتها من المعجم القديم، في قالب فني تقليدي... وبحق لقد أسهم البارودي بتجربته الشعرية الفريدة في نهضة الشعر العربي وتطوره...


القصيــدة:
قال محمود سامي البارودي بعد وصوله إلى جزيرة "سرنديب" وقد رأى ابنته الوسطى في المنام: تأوب طيف من سميرة زائر            وما الطيف إلا ما تريه الخواطر
تخطى إلي الأرض وجدا وما له         سوى نزوات الشوق حاد وزاجر
تمثلها الذكرى لعيني كأنني              إليها على بعد من الأرض ناظر
فطورا إخال الظن حقا وتارة             أهيم فتغشى مقلتي السمادر
صبرت على كره لما قد أصابني           ومن لم يجد مندوحة فهو صابر
ومن لم يذق حلو الزمان ومره                 فما هو إلا طائش اللب نافر
فماذا عسى الأعداء أن يتقولوا                 علي وعرضي ناصح الجيب وافر
ملكت عقاب الملك وهي كسيرة                  وغادرتها في وكرها وهي طائر
أنا المرء لا يثنيه عن درك العلا                    نعيم ولا تعدو عليه المفاقر
قؤول وأحلام الرجال عوازب                        صؤول وأفواه المنايا فواغر
فما الفقر إن لم يدنس العرض فاضح                 ولا المال إن لم يشرف المرء ساتر
فإن كنت قد أصبحت فل رزية                         تقاسمها في الأهل باد وحاضر
فكم بطل فل الزمان شباته                      وكن سيد دارت عليه الدوائر
فمهلا بني الدنيا علينا فإننا                     إلى غاية تنفت فيها المرائر
وما هي إلا غمرة ثم تنجلي                     غيابتها والله من شاء ناصر
ديوان البارودي، ص: 236-237 (بتصرف)

الأربعاء، 20 يونيو 2012


واحة تمزموط وسد المنصور الذهبي

الــواقع والآفـــاق...
   يكتسي الماء أهمية بالغة في حياة الإنسان، إذ بدونه تنعدم  الحياة، بل وتستحيل، لهذا توجب على الإنسان الحفاظ على هذه النعمة، وذلك بحسن تدبيرها واستغلالها بالشكل المناسب.. لتفادي كل ما قد ينجم عن عكس ذلك من مشاكل وصعوبات، لهذا التجأت الدولة في الفترة الأخيرة إلى اعتماد سياسة عقلنة توزيع هذه الثروة المائية، بنهجها لسياسة السدود المائية، على مستوى التراب الوطني كافة. ويعتبر "سد المنصور الذهبي" بورزازات، واحدا من هذه السدود، الرامية إلى استغلال مياه "وادي درعة" بشكل منظم، يضمن توزيع الثروة المائية على "واحة درعة" طوال السنة، نظرا لكون هذه الواحة تعاني نقصا حادا في المياه، بفعل مناخها الصحراوي الجاف، الذي يتميز بنذرة التساقطات وشحها، وارتفاع درجة الحرارة على طول  السنة...  فكرة جيدة لاقت استحسانا كبيرا من لدن الساكنة، الذين استبشروا خيرا لما توسموه من هذه المبادرة والالتفاتة، التي كشفت عن عناية خاصة من جهة المسؤولين بالعالم القروي، والمناطق النائية التي عانت ومازالت تعاني الويلات وشظف العيش- بفعل التهميش والإقصاء، الذي طالها لمدة سنوات- ، وتقاوم قدرها المحتوم، على الرغم من كل شيء، رافعة شعار "نعم للحياة"....
  لكن هل استجابت هذه السياسة الجديدة لمتطلبات الساكنة على أرض الواقع؟ أم أن هذه الجعجعة التي صاحبت تشييد هذا السد العملاق، لا تعدو أن تكون مجرد حقن تهدئة، ومخدر لآلام عميقة، طالما انتظرت، وتنتظر بفارغ الصبر من يضمد جراحها؟
   إن من طبيعة سكان الجنوب الصبر والجلد والتحدي، لكن هذا لا يعني تحدي القدر الإلهي، الذي اختارهم لعمارة تلك الناحية والجهة المهمشة من المملكة المغربية السعيدة، مهمشة لا لشئ إلا لأنها لم تجد بعد من يحسن تدبير واستغلال مؤهلاتها الطبيعية والبشرية على حد سواء...
   سنوات مرت على تشييد وبناء سد "المنصور الذهبي"، لكن هل تحسنت الأوضاع والظروف المعيشية؟ هل تغلبت المنطقة على معضلة نذرة وشح المياه؟ أبدا... إن الواقع يكذب ويؤكد زيف تلك الشعارات المرفوعة، والنوايا المزعومة، و"واحة تمزموط" بوادي درعة خير دليل على ذلك، لم يبق لسكان الواحة، الذين لا حول لهم ولا قوة، إلا الهجرة -إن لم نقل إن معظمهم هاجر، بحثا عن مكان آمن يضمن له ولأسرته العيش بسلام- أو انتظار الموت البطيء، وإلا فما معنى أنه بعد تشييد سد "المنصور الذهبي" ازدادت الأوضاع والظروف قساوة... ويكفي، لبيان صحة ذلك، عقد مقارنة بين ماضي وحاضر الواحة اليوم، للتأكد من أن هذا السد نقمة على المنطقة بدل أن يكون نعمة عليها.
   لقد كان سكان الواحة في الماضي يحققون اكتفاء ذاتيا فيما يتعلق بالحبوب وبعض الفواكه الرطبة والجافة، بالإضافة إلى تزويد السوق الوطنية بالتمور، ذات الجودة العالية، التي تعتبر المنتوج رقم واحد للمنطقة، بالاعتماد على العناية الإلهية أولا، ومجهوداتهم الخاصة ثانيا، لكن ماذا عن حالهم اليوم، وبعد أن تدخلت الدولة، في شخص الجهات المختصة للنهوض بالعالم القروي؟ لقد أصبح ذلك كأن لم يكن، بل ضربا من الخيال والأحلام، ماتت أشجار النخيل واللوز والرمان والحناء... ونفقت الدواب والماشية، واكتوى السكان بنار الفرقة بين الأحباب: الزوج والزوجة، الأب والابن، الأخ والأخت، بفعل الهجرة الداخلية والخارجية، وفرقة الأرض أشد وطئة ووقعا على الكائن الحي، ولسان الحال يردد:
   لا أحد يجادل أن مدينة ورزازات "هوليود المغرب"، كما يحلو للبعض نعتها، حباها الله بمعطيات طبيعية هامة، ساعدت الدولة وجعلتها تفكر في تحويلها إلى قبلة سياحية خاصة لإنتاج الأفلام والمسلسلات، وهذا يستدعي ويتطلب من الدولة توفير التجهيزات والبنى التحتية الكفيلة بإنجاح هذا المشروع، ما يعني إقامة فنادق ضخمة، ونوادي للترفيه والتنشيط (مثل الكولف)، لإضفاء صفة المدنية على هذه المدينة، ولا شك أن هذه الفنادق والنوادي تحتاج هي الأخرى إلى مناطق خضراء، والمناطق الخضراء تحتاج إلى الماء، وبما أن مدينة ورزازات تعاني أصلا من نقص في المياه، فما الحل إذن؟
  إن الحل في نظر مسؤولينا وبكل بساطة استغلال مياه وادي درعة، وذلك بتشييد سد على هذا الوادي أي "سد المنصور الذهبي" يضمن توفير كمية المياه اللازمة لري وسقي هذه المناطق الخضراء. بذلك يتضح أن مسؤولينا لم يفكروا أثناء تشييد "سد المنصور الذهبي" في مصلحة سكان المنطقة، كما يزعمون ذلك، بل كان هدفهم الأساس جلب العملة الصعبة، وإن كان ذلك على حساب تشريد المواطنين أي سكان المنطقة، ومنهم سكان "واحة تمزموط" طبعا، نعم إنها حقيقة مرة صيغت في قوالب وأقنعة ظاهرها خدمة الصالح العام، وباطنها العذاب...
   ترى في صالح من تحويل واحة درعة إلى ما هي عليه الآن؟ أرض خالية من الشباب، رجال المستقبل، وسوق استهلاكية ضخمة من الشيوخ والنساء والأطفال، لما ينتجه شبابها في المدن الكبرى، كالدار البيضاء مثلا. أهو مخطط مسبق من لدن بعض الفاعلين السياسيين في المغرب؟ أم أنه قدر وحكم شارك في صياغته سكان المنطقة أنفسهم؟
   أسئلة عالقة ومحيرة، لكنها لن تعجز من أعمل النظر والتأمل فيها عن إدراك حقيقة وأصل المشكلة. ومع ذلك تستمر الحياة... 
                                                                          



إضاءة: (حول دوار تمزموط بواحة درعة)
يوجد دوار تمزموط بواحة تنزولين الواقعة بين خ طول 60.°5 و 20.°6  غرب خط غرينتش وخطي °30 و 5.°30 شمال خط الاستواء، وهي واحة تنتشر على طول وادي درعة، بشريط زراعي مسقي، يضيق أحيانا، اتجاه الضفة اليمنى، وأحيانا أخرى اتجاه الضفة اليسرى، تخترقها الطريق الوطنية رقم 9، الرابطة بين مدينتي زاكورة وورزازات، وتبتدئ هذه الواحة، من سد تانسيفت إلى حدود فم أزلاك، كحد فاصل، بينها وبين واحة ترناتة، وتقسم: إداريا بين قيادة تمزموط و قيادة تنزولين ، وتضم أربع جماعات قروية، هي جماعة تمزموط، أولاد يحيى الكراير، تنزولين، وجماعة بوزروال وأجزاء من جماعتي بني زولي والروحا. وبذلك تعد واحة تنزولين واحدة من أهم الواحات الست المكونة، لما يسمى بدرعة الوسطى.
واحة تمزموط