الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

أنا وابني

قال لي ابني وهو حيران بما يحكى ويقرا
كيف كان الله إني قد وجدت الله سرا؟
أسمع الناس يقولون به خيرا وشرا
فأفدني, قلت: يا ابني أنا مثل الناس طرا
لي في الصحة آراء وفي العلة أخرى
كلما زحزحت سترا خلتني أسدل سترا
لست أدري منط بالأمر ولا غيري أدرى

أحسب الله الذي صاغ منم الذرات صخرا
والذي شاء فصارت قطرات الماء بحرا
والذي شاء فم البحر أصدافا ودرا
وأراد الضوء أجرا ما فصار الضوء زهرا
إن هذا الله لما شاء هذا كان "فكرا"

ثم لما نظم الألوان في الأرض زهورا
ورأى أن يعلن الحبب غناء وحبورا
فتمشى في حواشي الأرض سحرا وعطورا
وتهادى في حواشي الأفق أطيافا ونورا
عندما أوجد هذا كان "حسا وشعورا"

من أحب الله جبارا وفتاكا وقاهر
فأنا أهواه رساما، وفنانا، وساحر
وأراهخ في الندى والزهر والهب السوافر
فإذا الأنجم غارت وانطوت كل الأزاهر
وتلاشى كل ما أنشأ وسوى من مناظر
لاح لي في حسنه الأكمل في "ديوان اعر"
                                                                                         أنا وابني إيليا أبو ماضي

تحليل مبسط لقصيدة "غرفة الشاعر" لعلي محمود طه

في سياق التحولات التي عرفها الشعر العربي الحديث تماشيا مع الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بالمشرق العربي، تولد عند ثلة متميزة من شعراء التجديد الوعي بأن وقوف شعراء البعث والإحياء عند حدود تقليد القدماء شكلا ومضمونا، من شأنه أن يسقط الشعر في مهاوي التصنع والتصنيع، ويعود به إلى أتون التكرار والجمود. واستجابة لهذا الوعي تولدت لدى أولئك الشعراء رؤية جديدة إلى الأشياء والإنسان والحياة، فانتظموا في عدة مدارس أدبية ، منها مدرسة "أبولو" التي تبنت الاتجاه الرومانسي إطارا ومرجعا لنظم الشعر، من خلال الاحتفاء بالذات والوجدان، والتطلع إلى عالم آخر من عوالم الطبيعة أو الخيال أو الموت... ويعتبر علي محمود طه، من أبرز شعراء هذه المدرسة، بحيث جاء شعره تجسيدا لتأملاته الخاصة عن الطبيعة والوجود، إلى جانب شعراء آخرين مثل أحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي...فإلى أي حد حافظت القصيدة موضوع التحليل على هذا النموذج ؟ وما مدى تمثيليتها لخطاب سؤال الذات عموما ؟
   الملاحظة البصرية الخارجية للنص تكشف على أنه يبدو مخالفا لما ألفناه في القصيدة العمودية على مستوى شكله الهندسي، فقصيدة "غرفة الشاعر" اعتمدت نظام المقاطع، ونوعت في الأرواء (الكاف، القاف، الباء) وهي ولاشك، ملامح تجديدية في الشعر العربي الحديث.
أما عنوان النص فيوحي دلاليا بدلالات عديدة، حيث لفظة "غرفة" تحيل إلى مكان مخصوص، يوحي بالعزلة والخلود إلى ما يخالج الذات. وهذا ما جعلها مرتبطة بذات الشاعر بقرينة الإضافة، مما يوحي بأن الشاعر يقدم حالة أو لحظة زمنية عاشها في غرفته، مصورا ما ينتابه من مشاعر وأحاسيس وجدانية. وهذا دليل على أن القصيدة تدخل فعلا ضمن تجربة سؤال الذات.
   إن قراءة النص تكشف على أن علي محمد طه يصور لنا حالته النفسية ونظرته للحياة وموقفه منها، حيث استهل قصيدته بتصوير حالته النفسية والجسمية التي أصبح عليها بفعل التفكير والسهاد. حالة سيتولد عنها استغراق الشاعر في همومه وأفكاره في انقطاع تام عن العالم الخارجي، ولاشك أن هذا الانقطاع عن العالم الخارجي ما هو إلا مظهر من مظاهر الكآبة والأسى التي جناها الشاعر من أفكاره وهمومه، في الأخير يقتنع الشاعر بأن الدنيا فانية لا تستحق كل هذه المعاناة، ويدعو نفسه إلى الخلود للنوم والراحة.
في ضوء هذه المضامين، نقف على جملة من المؤشرات النصية، منها: تعدد ضمائر المخاطب في النص (الكئيب، غارقا، رأسك، جفونك، أذبلت لست...)،  وإن كانت كلها حقيقة دالة على نفسية الشاعر، مما أفرز نوعا من التطابق الكلي بين المتكلم في النص ومخاطبه. أما المعجم فقد جاء معبرا عن التيار الذاتي الرومانسي، حيث زاوج الشاعر بين ألفاظ وعبارات دالة على الذات الشاعرة ( الكئيب، الحزين، السهد، الأسى، ارتعاش، شجونك، أحزانك...)، وألفاظ دالة على الطبيعة الخلاص والمنقذ (الليل، حر، الرعد، الإبراق، الدجى، نهار، الخريف...)، كما يحضر الحقل الدال على الغرفة كذلك ( السكون، السراج، ضوء شاحب، الموقد، الصمت...)، ولا يخفى علينا من خلال هذه الحقول الحضور القوي للحزن، مما يعني أنه عنصر مهيمن على نفسية الشاعر، في توحد تام مع عناصر الطبيعة وما يرتبط بها من أزمنة وأمكنة (الليل، الحزن والكآبة، عتمة الغرفة).
   خدمة لهذه المضامين الشعرية اختار علي محمود طه صورا شعرية موغلة في التخيل، مقارنة مع الصور التقليدية في الشعر القديم، حيث أنسنة الطبيعة والانزياح، من قبيل قوله مثلا: (قد تمشى خلال غرفتك الصمت...) الواردة في البيت السادس، والمجاز في الييت الثالث (يد تمسك اليراع...) أطلق الكل وأراد الجزء، فالأنامل هي التي تمسك القلم، (ليس يحنو الدجى عليك...) في البيت 12، إذ شبه الشاعر الدجى بإنسان له أحاسيس ومشاعر فحذف المشبه به ورمز إليه بالحنو،... وبالرجوع إلى المقطع الأول، بشكل كلي نكتشف أنه مشهد يصور الحالة النفسية الحزينة لشاعرنا طه.
   أما من حيث الأساليب فقد جمع الشاعر بين الأسلوبين الخبري والإنشائي، فالأول استعان به للإخبار عن حالته النفسية ومعاناته، مثل (مسلما رأسك / يد تمسك اليراع / أذبلت جفونك...)، أما الثاني فيرتبط بانفعالات الشاعر والرغبة في البوح، من ذلك قوله: (أيها الشاعر الكئيب، آه يا شاعري، هلا فرغت من أحزانك ؟، فقم الآن...).
   وبالعودة إلى إيقاع القصيدة الخارجي، نجد الشاعر بناها على وزن بحر الخفيف (فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن 2)،وقد التزم فيه الشاعر بالعروض الصحيحة والضرب مثلها، كما نوع في القافية بما يتماشى ودفقته الشعورية وتجربته الشعرية، فهي قافية مطلقة حينا، ومقيدة حينا آخر، في محاولة للتحرر من الشكل التقليدي، وتصوير شدة المعاناة، ساعد على ذلك تكراره لبعض الحروف بعينها (أرواء القصيدة، اللام، السين..) على المستوى الداخلي للقصيدة، وهي كلها حروف تمتح من معين الكآبة،، كما تكررت كلمات بالترادف (شجونك، أحزانك / الصمت، السكون / ناضب، ذابل...)، وتوازت الصيغ الصرفية، مثل: (جبين،أنين / طروب، خطوب...)وبعض الصيغ التركيبية ( مازلت غارقا في شجونك، مازلت سادرا في مكانك). ومن المؤكد أن كلا من التكرار والتوازي، قد أديا في هذه القصيدة، فضلا عن الوظيفة الجمالية، وظيفة تعبيرية، حيث تصوير وتأكيد التوتر النفسي للشاعر داخل الغرفة رفقة اليراع.
   صفوة القول، يمكن اعتبار هذه القصيدة من النماذج الشعرية التي تعكس بعمق مضامين خطاب سؤال الذات لدى علي محمود طه، حيث أحدث فيها انزياحا عن أصول القصيدة الكلاسيكية، شكلا ومضمونا، ووصولا إلى المعجم اللغوي الذي يغترف من مألوف الألفاظ ومأثورها، والصور الشعرية التي نزعت نحو الخيال والأنسنة، مما يؤكد بحق، ريادة جماعة "أبولو"، تيار الشاعر، في ترسيخ التيار الذاتي الرومانسي في الشعر العربي الحديث.

الجمعة، 5 أكتوبر 2012

تحليل مبسط لقصيدة "أثريت مجدا" للبارودي

    عاشت القصيدة العربية مرحلة طويلة من الضعف والتدهور والتخلف في عصر الانحطاط، ولما حل عصر الانبعاث، استعادت شيئا من بريقها، وقوتها التعبيرية من جديد، ويعد محمود سامي البارودي – بشهادة عدد من النقاد – أحد الرواد الأوائل الذين كان لهم الفضل الكبير في إحياء الشعر العربي، فقد رد إليه ما كان له في أزهى عصوره من القوة والفتوة، والبهجة والجزالة والأناقة بشاعرية متوقدة، ومعارضة لبعض القدامى، واندماج في الحياة الاجتماعية والسياسية... فهل تجسد قصيدته "أثريت مجدا" هذه المواصفات ؟

     المؤشرات الخارجية للنص توحي بأن البارودي يحاول تصوير تجربته في المنفى، وإبراز تطلعاته وانتظاراته.  والمتأمل في هذه القصيدة، يدرك من الوهلة الأولى أن شكلها لا يختلف في شيء عن القصائد العربية القديمة، فهي من الشعر العمودي التقليدي الذي يقوم على نظام الشطرين المتناظرين، ووحدة الوزن والقافية والروي.
كما أن قراءة الأبيات (13-15-19) على سبيل المثال، تفضي إلى استنتاج مفاده أن ثمة مواقف مختلفة وأبعادا متعددة، ومعاني متنوعة، تختزل تجربة الشاعر في المنفى وتعلن عن أحواله النفسية وانفعالاته الداخلية ومواقفه من الحياة والناس. وهذا يعني أن مضامين القصيدة ليست واحدة، وإنما هي متنوعة، وتلك سمة من سمات القصيدة الكلاسيكية.
وبالعودة إلى القصيدة نجد شاعرنا استهلها بذكر الدمع والمكابدة من جراء حرقة المنفى في جزيرة سرنديب، وما ترتب عنها من إحساس ظالم بالغربة من جهة، واشتياقه إلى الأهل من جهة ثانية. لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن شوقه إلى وطنه وأهله، لدرجة لم يعد معها قادرا على الكتمان، مشيرا في الآن ذاته إلى أن ذلك لم ينل من عزيمته وإرادته، ومشيدا بخصاله الحميدة. في الأخير يورد الشاعر انتظاراته في شكل حكمة مأثورة مفادها أن الدهر إذا غدر به، فإن الليالي لابد ستصفو يوما، فهي لا تبرح على حال.
بناء على ما سبق يتضح أن القصيدة لا تنطوي على موقف نفسي واحد، بل هي سلسة مواقف تختزل تجربة الشاعر. وتجسد قيمه الأخلاقية الحميدة. وهذه سمة أخرى من سمات القصيدة البعثية.
خدمة لهذه المضامين وظف الشاعر حقلين دلاليين هما، حقل المعاناة النفسية (دمع، مكتئب، مكابدة، لواعجه، غربة، لا رفيق، كدرتها...)، وحقل الصبر والتفاؤل (ملكت حلمي، صنت عرضي، تصفو الليالي...) والملاحظ أنه اتخذ من الصبر والتفاؤل سبيلا لتجاوز معاناته النفسية جراء المحنة.
وبالعودة إلى الجانب الفني للقصيدة نستشف أن البارودي ظل محافظا على التصوير الذي نهجه القدماء من توظيف التشبيه، نحو (كأن قلبي إذا هاج...طائر في الفخ)...، والمجاز (أثريت مجدا/ ملكت حلمي / صنت عرض...)، وكلها صور متصلة بأحاسيسه ومشاعره، ومعبرة تعبيرا صادقا عن تجربته وعاطفته، بلغة بليغة قريبة المأخذ وواضحة الدلالة. كما أنه كان حريصا على أن يختم قصيدته بحكمة مأثورة مثل ما كان يفعل أسلافه من فحول الشعراء في القديم.
معاني حاول البارودي الكشف عنها بأساليب تعبيرية تتأرجح بين: الشرط: مثل (لولا مكابدة الأشواق...)، والنداء، مثل: (فيا أخا العذل لا تعجل بلائمة)، والاستفهام: مثل: ( كيف يملك دمع العين مكتئب؟)... وهي أساليب تعكس حالته النفسية المضطربة في المنفى، حيث المعاناة والشوق إلى الوطن. ومما زاد القصيدة قوة وحيوية نبرتها الإيقاعية، إذ اختار لها الشاعر بحر البسيط، في التزام تام بوحدة الوزن والروي والقافية، ولاشك أن اختياره لحرف الباء رويا مطلقا كان موفقا  نظرا لما يحمله هذا الحرف من دلالات مختلفة (المعاناة والإحساس بالغربة والاعتزاز بالنفس). وقد يتردد هذا الحرف في بعض الأبيات ترددا ملفتا للانتباه فيضفي على القصيدة رنة متوازية، يزيدها رونقا تمثل الشاعر للتوازي بمختلف صيغه وأنواعه كما هو وارد في الأبيات (14-16-18).

     ختاما، كشف البارودي لتجربته وأحاسيسه تجاه وطنه في المنفى بهذا الشكل الذي رأيناه، لم ينسه الوفاء لتقاليد القصيدة العربية القديمة، والإخلاص لعمود الشعر العربي ولأصوله المحددة، واستلهام المعاني الشعرية الأصيلة، إلا أن هذا الحكم لا يعني أنه كان مقلدا تابعا وحاطب ليل، وإنما كان يحاول فقط إحياء إرث شعري متميز، وبعث روح جديدة فيه، مواكبة لعصره وتطلعات أقرانه.