السبت، 23 يونيو 2012

تحليل مبسط لقصيدة "سرنديب" للبارودي لتلامذة الباكالوريا


لقد عرف الشعر العربي ازدهارا كبيرا خلال المرحلة الجاهلية، إلا أن تظافر جملة من العوامل أسهمت في ركوده، خصوصا وأنها تزامنت مع عصر الانحطاط، فظهرت نخبة من الشعراء للنهوض بهذا الموروث. وكان البارودي إمامهم في نظم القصيدة سيرا على خطى الشعراء الفحول، واتخذوا من الشكل القديم للقصيدة نسقا يقتدون به ومثلا يستوحونه.

فما هي مضامين القصيدة ؟ وما خصائصها الفنية والجمالية ؟ وإلى أي حد استطاعت تمثيل اتجاه البعث ؟

انطلاقا من قراءتنا الفاحصة للديباجة والبيت الشعري الأول يتضح لنا أن البارودي سيتحدث عن معاناته جراء نفيه إلى جزيرة سرنديب بعدما رأى طيف ابنته سميرة. ومن المعلوم أن الشاعر استهل قصيدته برؤيته لطيف ابنته بعد زمن طويل من الفراق حتى بدأ يتخيل طيفها. ولكن ذلك لم يمنعه من الافتخار بنفسه ومواجهة الصعاب خاصة في الأبيات الأخيرة للنص.

خدمة لهذه المضامين وظف البارودي حقلين دلاليين اثنين، هما حقل الحنين والشوق، وتدل عليه في النص (طيف- نزوات الشوق – حاد وزاجر – تمثلها الذكرى...)، وحقل الافتخار والاعتزاز بنفسه (ملكت عقاب – أنا المرء لا يثنيه – صبرت على...). وهكذا نجد أن الألفاظ جاءت متقاربة، لأن الشاعر زاوج بين الشوق والافتخار بسبب نفسيته التي أضحت تتأرجح تارة بين الحنين إلى أهله، وتارة بين استرجاع بطولاته وفخره بشهامته.
وللتأثير في نفسية المتلقي استعان الشاعر بجملة من الصور البيانية، ذات وظيفة تزيينية، كالتشبيه في البيت الثالث، حيث صور لنا شدة فراقه لها حتى أصبحت ذكراها ملازمة لمخيلته، وكأنما ينظر إليها من الأعلى، لكنه عاجز عن الوصول إليها. كما يمكننا ملاحظة هيمنة الأسلوب الإنشائي على الأسلوب الخبري ويتمظهر ذلك في البيت السابع والثالث عشر، حيث يتساءل وبشكل استنكاري عما يقوله الأعداء بهتانا في عرضه، ويستفهم عن عدم ثبات هذا الزمان وأناسه، فمنهم أسياد دارت عليهم الدوائر. وأسلوب النداء، قائلا : "فمهلا بني"، فهو يحاول ترشيد البشرية بأن هذه الدنيا ما هي إلا فترة إلى حين. وختم نصه ببيت حكمي، يوجهه لنفسه لتقوية عزيمته، ولنا قراء لكي نعي مدى تغير الحياة وانقلابهاـ لكن سرعان ما تتوارى تلك المعاناة خلف تحقق النص، وموازاة مع ذلك استنجد الشاعر بأسلوب التكرار، فنجده كرر كلماته (طيف، الصبر، العرض،...) وأسلوب التوازي الصوتي، إذ وزع عناصر البيت العاطفي توزيعا هندسيا متكافئا، وذلك كله بهدف ترسيخ المعنى في الذهن، وإضفاء قالب فني على القصيدة. القصيدة التي نظمها على بحر الطويل تماشيا مع غرضها، إلى جانب تمثله لنظام الشطرين المتوازيين، ووحدة القافية والروي.

من خلال سبر أغوار النص يتضح لنا أن البارودي نهج نفس المنهج الذي سار عليه الشعراء القدامى شكلا ومضمونا، وهذا دليل على رغبته في النهوض بالقصيدة وبعثها من جديد. فعلى مستوى المضمون ظل الشاعر وفيا لغرض المعاناة والافتخار، وعلى مستوى الشكل استوقفتنا لغة تمتح مفرداتها من المعجم القديم، في قالب فني تقليدي... وبحق لقد أسهم البارودي بتجربته الشعرية الفريدة في نهضة الشعر العربي وتطوره...


القصيــدة:
قال محمود سامي البارودي بعد وصوله إلى جزيرة "سرنديب" وقد رأى ابنته الوسطى في المنام: تأوب طيف من سميرة زائر            وما الطيف إلا ما تريه الخواطر
تخطى إلي الأرض وجدا وما له         سوى نزوات الشوق حاد وزاجر
تمثلها الذكرى لعيني كأنني              إليها على بعد من الأرض ناظر
فطورا إخال الظن حقا وتارة             أهيم فتغشى مقلتي السمادر
صبرت على كره لما قد أصابني           ومن لم يجد مندوحة فهو صابر
ومن لم يذق حلو الزمان ومره                 فما هو إلا طائش اللب نافر
فماذا عسى الأعداء أن يتقولوا                 علي وعرضي ناصح الجيب وافر
ملكت عقاب الملك وهي كسيرة                  وغادرتها في وكرها وهي طائر
أنا المرء لا يثنيه عن درك العلا                    نعيم ولا تعدو عليه المفاقر
قؤول وأحلام الرجال عوازب                        صؤول وأفواه المنايا فواغر
فما الفقر إن لم يدنس العرض فاضح                 ولا المال إن لم يشرف المرء ساتر
فإن كنت قد أصبحت فل رزية                         تقاسمها في الأهل باد وحاضر
فكم بطل فل الزمان شباته                      وكن سيد دارت عليه الدوائر
فمهلا بني الدنيا علينا فإننا                     إلى غاية تنفت فيها المرائر
وما هي إلا غمرة ثم تنجلي                     غيابتها والله من شاء ناصر
ديوان البارودي، ص: 236-237 (بتصرف)

هناك 30 تعليقًا:

  1. انا مفتخرة بهدا الست

    ردحذف
  2. اسماعيل عبد الرفيع5 ديسمبر 2012 في 3:23 م

    شكرا، مرحبا بك على الدوام

    ردحذف
  3. نشكر الجميع المشاركين في دروب شامان لماذا اخترت هذا الاسم لهذا الموقع

    ردحذف
  4. بعد السلام مرحبا، في الحقية هذه قصة طويلة جدا، كنت أطالع في يوم من الأيام كتابا، ووقفت على اسم شامان، لأنه أثار انتباهي، فما كان مني إلا أن بحثت عن دلالته فأعجبتني، من تم اخنرت لهذه المدونة اسم شامان، وهذه مناسبة لأدعوك للبحث عن دلالة هذا الاسم إنها عجيبة...

    ردحذف
  5. شكرا الاخ اسماعيل على هدا التحليل المبسط
    جزاك الله خيرا
    مريم

    ردحذف
    الردود
    1. اسماعيل عبد الرفيع15 يناير 2013 في 2:58 ص

      لا شكر على واجب، مرحبا بك صديقة دائمة للمدونة...

      حذف
  6. شكرا على الجهود

    ردحذف
    الردود
    1. بكل فرح مرحبا بك صديقا جديدا للمدونة

      حذف
  7. اختكم في الله8 يونيو 2013 في 4:14 م

    شكرا لكم على هذا التحليل المبسط
    جزاكم الله خيرا

    ردحذف
    الردود
    1. اسماعيل عبد الرفيع9 يونيو 2013 في 4:13 م

      بعد السلام، تحية أدبية لأختنا في الله، مرحبا بك على الدوام، واجبنا الأخذ بيد شبابنا بغية وصولهم إلى بر الأمان...

      حذف
  8. شكرا يا استاذ اسماعيل على هدا التحليل المبسط
    جزاك الله خيرا
    مريم

    ردحذف
    الردود
    1. اسماعيل عبد الرفيع14 فبراير 2015 في 7:36 ص

      بعد السلام، العفو.. مرحبا بك مريم صديقة للمدونة

      حذف
  9. السلام عليكم أخوك محجوب و جزاك الله خيرا على هدا العمل .

    ردحذف
  10. السلام عليكم أخوك محجوب و جزاك الله خيرا على هدا العمل .

    ردحذف
    الردود
    1. بعد السلام مرحبا بك أخ محجوب صديقا للمدونة..

      حذف
    2. ملخص القصيدة بالتحليل قصيرة

      حذف
  11. شكرا استاد لك افضل السلام
    يسرى

    ردحذف
  12. الرجاء اريد دراسات نقدية لهذه القصيدة

    ردحذف
  13. شكرا وجزاك الله خيرا

    ردحذف
  14. شكرا جزيلا لكم أحبكم في الله

    ردحذف
  15. شكرا 🤷🤷🤷على مجهوداتكم

    ردحذف
  16. لو سمحت ممكن شرح هذا البيت فقط
    فطورا إخال الظن حقاًوتارة ؞ أهيم، فتغشي مقلتي السمادر

    ردحذف