كنا جالسين في قاعة الأساتذة نتجاذب أطراف الحديث فيما بيننا حول ظروف
الامتحان، بعض الأساتذة لاذوا بالصمت منزوين في ركن القاعة، يبدو من
ملامحهم أنهم غير راضين، ينتظرون فقط انتهاء جحيم الامتحانات هذه، الانطباع
العام السائد هو أن هنالك حالة من عدم الرضا تسودُ بين جميع الأساتذة بسبب
المستوى المتدنِّي للتلاميذ في جميع المواد، علامات الاستغراب والتذمُّر
بادية على الجميع، أما ظاهرة الغش المتفشية في صفوف التلاميذ، فلم تَعُدْ
تثير الاستغراب، لقد أصبحت قاعدة، إن لم نَقُلْ: ضرورية من المسلَّمات، لا
أذكر أن يومًا واحدًا مرَّ دون سماع صراخ أو مشادات كلامية في قاعةٍ من
قاعات الامتحان، ها قد شرع مدير مركز الامتحان في المناداة على الأساتذة
المكلَّفين بالحراسة، كنت أنظر من نافذة القاعة وآخذ نفَسًا فالجوُّ حار
هذه الأيام، التلاميذ هم أيضًا يتلصصون من نوافذ قاعاتهم بأعناقهم المشرئبة
لمعرفة الأستاذ المكلَّف بحراستهم، منظر عجيب ومقرف يتكرَّر مع بداية كل
حصة امتحان، هدفهم من هذا التصرف معرفة مدى صرامة وجدية الأستاذ الذي
سيحرسهم من عدمها، أما إذا تأكد لهم أنه من النوع المفضَّل لديهم، فحالة
الفوضى والفرح تسود القاعة، ينظر بعضهم إلى البعض الآخر مشيرًا إليه أن
انقُلْ ولا تكترث، بعد هنيهة سمعت اسمي على لسان المدير، أسرعت لتسلم أوراق
التحرير، مدَّها إليَّ قائلا:
• أستاذ إسماعيل، قاعة 4، بابتسامته المعهودة.
• بادلتُه الابتسامة مؤكدًا: قاعة 4.
• أومأ برأسه أن نعم.
انطلقت صوب القاعة، وأنا أكرر في أعماقي ثلاث ساعات في الجحيم، لم أشعر ببطء الساعة وثقلها شعوري بها أثناء حراسة الامتحان، في هذه اللحظات يكون الإنسان حبيسَ أفكاره وشجونه، أما الضمير، فهو الخصم الأول والأخير، حين تصطدم القيم والمبادئ بحقيقة الواقع المر.
لمَّا دخلت القاعة كانت علامات الاستهجان وعدم الرضا باديةً على الجميع، إنه تعبير عن الرفض، أدركت أني الخصم والحكم في نفس الآن، صمتٌ مطبق يخيِّم على القاعة، وكأن على رؤوسِهم الطير، وضعتُ أوراق التحرير على المكتب، مسحت القاعة بعيني مسحًا، حاولت أن أبتسم وأكسر حاجز الخوف والقلق، طلبتُ منهم التخلُّص من محافظِهم ووضعها بجانب السبورة، والاحتفاظ بالأدوات اللازمة فقط، تلكَّؤوا وتبرَّموا، لكنهم في الأخير أذعنوا للأمر، ذكَّرتهم بالتعليمات واحترامها حتى تمر الحصة في ظروف حسنة، ونبهَّتهم إلى أنني هنا لمساعدتهم وليس لعقابهم كما يتوهمون، لم يستسيغوا الأمر، إنهم يلعنونني في أعماقهم، ويلعنون القدر الذي طوَّح بي في قاعتهم! منهم مَن لازمه الخوف والتأثر حتى نهاية الامتحان، لم يسطع الإيمان بأنه في هذه الحصة لن ينقل، أسلحته المضادة المنتشرة في مختلف أنحاء جسمه ستلزم جحورها إلى إشعار آخر، واأسفاه، ما هذه اللعنة؟! بعضهم لا يزال يفكر في المناورة باللجوء إلى الخطة البديلة.
انتهت فترة الإعداد والكل جاهز الآن، لحظات والتحق بي زميلي الآخر حاملاً أوراق الأسئلة، ألقى التحية، خفقت القلوب وبلغت الحناجر، رن الجرس، وزَّعنا الأوراق وانطلقت المعركة، لا شيء يبشر بخير، الإحباط واليأس والقنوط بادٍ على المُقَلِ والوجوه، مع العلم أن الأسئلة في المتناول لا تحتاج إلى حفظٍ بقدر ما تحتاج إلى تأمُّل وإعمال العقل، لكن أين هو هذا العقل والفكر الذي سيتأمل؟ إنه منشغل كليًّا بإيجاد حل لتوظيف الأسلحة العابرة للقارات، أسلحة استهلكت من وقته الكثير، ولا يجب أن تذهب سدى، لو أنفق ذلك الوقت في المراجعة الحقيقية لأفاد واستفاد، ولكنه الانجراف وراء الحل الأسهل والأبسط للفوز – من وجهة نظرهم طبعًا – كانت الأعين ترمُقني من هنا وهناك، سهام سامة موجَّهة نحوي أنى اتجهت، ما العمل؟
نصف المدة المخصصة للإجابة انصرم، أحسست أن الخناق بدأ يشتد على البعض، لذلك تراهم يتزحزحون من أماكنهم، مطلقين زفرات حرَّى، أما أصابعهم، فقد كادت من كثرة تشبيكها تتكسر، تلميذتانِ اثنتان انكبَّتا على ورقتَيهما باهتمام بالغ مشكلتينِ استثناءً، أشفقتُ عليهما، نظرت إلى ساعتي اليدوية، فرفعتُ صوتي قائلاً:
حاولوا أن تُسرِعوا، أمامكم ساعة واحدة فقط، حملقوا وتزحزحوا من أماكنهم فأيقنت أن المعركة حَمِي وطيسُها، وقفت على قدمي واتجهت صوب الباب، لفت نظري منظر مؤثر في ساحة المؤسسة، الأستاذ المداوم وقد تحلق حوله التلاميذ المجتهدون الذين تمكنوا من الإجابة على الأسئلة في ظرف وجيز، كان ممسكًا بورقة الامتحان بيده اليسرى بلباسه التقليدي الأصيل وطربوشه الأنيق، يده اليمنى في حركة مستمرة، تلميذة تنط فرحًا، وأخرى تعَضُّ على شفتيها، وتدس وجهها بين راحتيها، يربّت الأستاذ براحته على كتفها مبتسمًا، تلاميذ آخرون آثروا الانزواء في ركن من أركان الساحة، رافضين الدخول في مثل هذه الحوارات العقيمة، التي لن تنفعهم في شيء، مفضِّلين مراجعة المادة الموالية ربحًا للوقت.
وأنا أرقب هذا المشهد تناهى إلى أذني صراخ بإحدى القاعات المجاورة، أحدهم يستغيث ويطلب المساعدة، هرول منسق القاعات رفقة مدير المركز باتجاهه حاملاً معه قارورة ماء، علمت فيما بعد أن الأمر يتعلق بمترشحة أغمي عليها، لما استدرت كان أحدهم متلبسًا في حالة غش، اتجهت صوبه، طلبت منه تزويدي بسلاحه، رفض في البداية وأنكر، لكنه – وبعد إلحاح شديد – زوَّدني بسلاحه، لم أتفاجأ بما رأيت، فهذه الأسلحة أصبحت مألوفة ومعتادة في كل امتحان، ورقة مكتوبة بعناية فائقة، وبخط صغير جدًّا تحتاج إلى مكبر لقراءتها، طولها 50 سنتيمترًا تقريبًا وعرضها لا يتعدى بضع سنتيمترات، مطوية بشكل يسهل عملية تصفحها، كنت أقلب الورقة بين أناملي، أما هو فكان يتوسل إليَّ قائلاً:
• ها العار يا أستاذ! إنها فرصتي الأخيرة، إن لم أنجح هذا الموسم سأفصل.
حاولت أن أكون صارمًا، أداري تأثري، أجبتُه بأنني سأطبق القانون، اهتز كل من في الفصل، توقفوا عن الكتابة وأحاطوني بنظرات استعطاف، شعارها: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، شرع في البكاء كطفل صغير، شعور غريب يعتريني اللحظة، ماذا سأفعل؟ مصيره بين يدي الآن، القانون واضح، ولكن قلبي يأبى تطبيقه، ما هذا التناقض؟ أين الخلل؟
نظرت إلى زميلي أستشيره، كان هو الآخر متأثرًا، خاصة لما شرع المترشح في النحيب وتقبيل يدي، نهرته بصوت مرتفع، قائلاً:
ألم تستحي، كان عليك أن تفكر في العواقب قبل الإقدام على تصرفك الطائش هذا، طأطأ رأسه وواصل نحيبه، سحبت ورقة التحرير منه، ووضعت وسطها سلاحه، وضعتُها على المكتب، هممت بكتابة تقرير، لكن زميلي جذبني وضغط على ساعدي وهمس في أذني، فكَّرت مليًّا بعدها، أعدت الورقة للمترشح، مزَّقت السلاح، تركته يواصل، أحسست بانقباض شديد، فتساءلت: لماذا؟
• أستاذ إسماعيل، قاعة 4، بابتسامته المعهودة.
• بادلتُه الابتسامة مؤكدًا: قاعة 4.
• أومأ برأسه أن نعم.
انطلقت صوب القاعة، وأنا أكرر في أعماقي ثلاث ساعات في الجحيم، لم أشعر ببطء الساعة وثقلها شعوري بها أثناء حراسة الامتحان، في هذه اللحظات يكون الإنسان حبيسَ أفكاره وشجونه، أما الضمير، فهو الخصم الأول والأخير، حين تصطدم القيم والمبادئ بحقيقة الواقع المر.
لمَّا دخلت القاعة كانت علامات الاستهجان وعدم الرضا باديةً على الجميع، إنه تعبير عن الرفض، أدركت أني الخصم والحكم في نفس الآن، صمتٌ مطبق يخيِّم على القاعة، وكأن على رؤوسِهم الطير، وضعتُ أوراق التحرير على المكتب، مسحت القاعة بعيني مسحًا، حاولت أن أبتسم وأكسر حاجز الخوف والقلق، طلبتُ منهم التخلُّص من محافظِهم ووضعها بجانب السبورة، والاحتفاظ بالأدوات اللازمة فقط، تلكَّؤوا وتبرَّموا، لكنهم في الأخير أذعنوا للأمر، ذكَّرتهم بالتعليمات واحترامها حتى تمر الحصة في ظروف حسنة، ونبهَّتهم إلى أنني هنا لمساعدتهم وليس لعقابهم كما يتوهمون، لم يستسيغوا الأمر، إنهم يلعنونني في أعماقهم، ويلعنون القدر الذي طوَّح بي في قاعتهم! منهم مَن لازمه الخوف والتأثر حتى نهاية الامتحان، لم يسطع الإيمان بأنه في هذه الحصة لن ينقل، أسلحته المضادة المنتشرة في مختلف أنحاء جسمه ستلزم جحورها إلى إشعار آخر، واأسفاه، ما هذه اللعنة؟! بعضهم لا يزال يفكر في المناورة باللجوء إلى الخطة البديلة.
انتهت فترة الإعداد والكل جاهز الآن، لحظات والتحق بي زميلي الآخر حاملاً أوراق الأسئلة، ألقى التحية، خفقت القلوب وبلغت الحناجر، رن الجرس، وزَّعنا الأوراق وانطلقت المعركة، لا شيء يبشر بخير، الإحباط واليأس والقنوط بادٍ على المُقَلِ والوجوه، مع العلم أن الأسئلة في المتناول لا تحتاج إلى حفظٍ بقدر ما تحتاج إلى تأمُّل وإعمال العقل، لكن أين هو هذا العقل والفكر الذي سيتأمل؟ إنه منشغل كليًّا بإيجاد حل لتوظيف الأسلحة العابرة للقارات، أسلحة استهلكت من وقته الكثير، ولا يجب أن تذهب سدى، لو أنفق ذلك الوقت في المراجعة الحقيقية لأفاد واستفاد، ولكنه الانجراف وراء الحل الأسهل والأبسط للفوز – من وجهة نظرهم طبعًا – كانت الأعين ترمُقني من هنا وهناك، سهام سامة موجَّهة نحوي أنى اتجهت، ما العمل؟
نصف المدة المخصصة للإجابة انصرم، أحسست أن الخناق بدأ يشتد على البعض، لذلك تراهم يتزحزحون من أماكنهم، مطلقين زفرات حرَّى، أما أصابعهم، فقد كادت من كثرة تشبيكها تتكسر، تلميذتانِ اثنتان انكبَّتا على ورقتَيهما باهتمام بالغ مشكلتينِ استثناءً، أشفقتُ عليهما، نظرت إلى ساعتي اليدوية، فرفعتُ صوتي قائلاً:
حاولوا أن تُسرِعوا، أمامكم ساعة واحدة فقط، حملقوا وتزحزحوا من أماكنهم فأيقنت أن المعركة حَمِي وطيسُها، وقفت على قدمي واتجهت صوب الباب، لفت نظري منظر مؤثر في ساحة المؤسسة، الأستاذ المداوم وقد تحلق حوله التلاميذ المجتهدون الذين تمكنوا من الإجابة على الأسئلة في ظرف وجيز، كان ممسكًا بورقة الامتحان بيده اليسرى بلباسه التقليدي الأصيل وطربوشه الأنيق، يده اليمنى في حركة مستمرة، تلميذة تنط فرحًا، وأخرى تعَضُّ على شفتيها، وتدس وجهها بين راحتيها، يربّت الأستاذ براحته على كتفها مبتسمًا، تلاميذ آخرون آثروا الانزواء في ركن من أركان الساحة، رافضين الدخول في مثل هذه الحوارات العقيمة، التي لن تنفعهم في شيء، مفضِّلين مراجعة المادة الموالية ربحًا للوقت.
وأنا أرقب هذا المشهد تناهى إلى أذني صراخ بإحدى القاعات المجاورة، أحدهم يستغيث ويطلب المساعدة، هرول منسق القاعات رفقة مدير المركز باتجاهه حاملاً معه قارورة ماء، علمت فيما بعد أن الأمر يتعلق بمترشحة أغمي عليها، لما استدرت كان أحدهم متلبسًا في حالة غش، اتجهت صوبه، طلبت منه تزويدي بسلاحه، رفض في البداية وأنكر، لكنه – وبعد إلحاح شديد – زوَّدني بسلاحه، لم أتفاجأ بما رأيت، فهذه الأسلحة أصبحت مألوفة ومعتادة في كل امتحان، ورقة مكتوبة بعناية فائقة، وبخط صغير جدًّا تحتاج إلى مكبر لقراءتها، طولها 50 سنتيمترًا تقريبًا وعرضها لا يتعدى بضع سنتيمترات، مطوية بشكل يسهل عملية تصفحها، كنت أقلب الورقة بين أناملي، أما هو فكان يتوسل إليَّ قائلاً:
• ها العار يا أستاذ! إنها فرصتي الأخيرة، إن لم أنجح هذا الموسم سأفصل.
حاولت أن أكون صارمًا، أداري تأثري، أجبتُه بأنني سأطبق القانون، اهتز كل من في الفصل، توقفوا عن الكتابة وأحاطوني بنظرات استعطاف، شعارها: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، شرع في البكاء كطفل صغير، شعور غريب يعتريني اللحظة، ماذا سأفعل؟ مصيره بين يدي الآن، القانون واضح، ولكن قلبي يأبى تطبيقه، ما هذا التناقض؟ أين الخلل؟
نظرت إلى زميلي أستشيره، كان هو الآخر متأثرًا، خاصة لما شرع المترشح في النحيب وتقبيل يدي، نهرته بصوت مرتفع، قائلاً:
ألم تستحي، كان عليك أن تفكر في العواقب قبل الإقدام على تصرفك الطائش هذا، طأطأ رأسه وواصل نحيبه، سحبت ورقة التحرير منه، ووضعت وسطها سلاحه، وضعتُها على المكتب، هممت بكتابة تقرير، لكن زميلي جذبني وضغط على ساعدي وهمس في أذني، فكَّرت مليًّا بعدها، أعدت الورقة للمترشح، مزَّقت السلاح، تركته يواصل، أحسست بانقباض شديد، فتساءلت: لماذا؟
اسماعيل ايت عبد الرفيع