يتأطر النص الذي بين أيدينا ضمن النصوص الأدبية التي يتم فيها تطبيق المنهج
الاجتماعي، هذا المنهج الذي يولي أهمية كبرى للعلاقة بين الأديب ومرجعه الواقعي
الاجتماعي، حيث يقارب الأدب من خلال ربطه بخلفياته الاجتماعية والتاريخية، ويستند
في مرجعيته إلى نظريتين: الماركسية والوضعية. ظهر هذا المنهج في العالم العربي
أواسط القرن التاسع عشر، ومن رواده طه حسين، ونجيب العوفي، وصاحب هذا النص محمد
عويس محمد، الذي استفاد من خبرته في الأجناس الأدبية فاختار المنهج الاجتماعي
ليسائل الظاهرة الأدبية. إذن، ما طبيعة الواقع الاجتماعي في شعر حافظ وشوقي من
منظور الناقد؟ وإلى أي حد يمثل نصه هذا
مقومات المنهج الاجتماعي شكلا ومحتوى؟
تقودنا ملاحظة العنوان وبداية النص ونهايته إلى افتراض كون الناقد بصدد
التأكيد على العلاقة الجدلية النسبية بين الشعراء وواقعهم الاجتماعي، والتمثيل
لهذه العلاقة بتجربة حافظ وشوقي في رؤيتهما للواقع الاجتماعي المصري.
افتراض تدعمه القراءة المتأنية للنص، فالناقد ينطلق منذ بداية النص من
قاعدة سوسيولوجية واضحة، مفادها أن الشاعر في علاقة جدلية بواقعه الاجتماعي، وهي
علاقة تأثير وتأثر نسبية تختلف من شاعر لآخر، مثل لها الناقد بالاختلاف الواضح بين
الشاعرين الكبيرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، في رؤيتهما للواقع المصري الذي عاشا
فيه، فرؤية شوقي للواقع الاجتماعي المصري جاءت محكومة برؤية التاريخ المصري
القائمة على صورة الوجدان والكيان المعنوي كاتجاه لحل المشكلة المصرية بالعلم
والأخلاق، أكثر من التركيز على صورة المكان الاجتماعي المصري، ولهذا وجه شوقي،
يؤكد الناقد، دعوته إلى إصلاح الزراعة والصناعة والتجارة، قائلا:
أين التجارة وهي
مضمار الغنى؟ أين الصناعة وهي وجه
عنانه؟
أين الزراعة في
جنان تحتكم كخمائل الفردوس أو
كجنانه؟
بينما حامت رؤية حافظ إبراهيم
للمشكلة المصرية على فهم طبيعة الواقع ومشاكله لإصلاح السياسة الاجتماعية وربط
العلم بخصوصيات هذا الواقع ومشاكله، بهدف إصلاح المجتمع وتجاوز مظاهر التخلف فيه،
وفي هذا السياق جاءت دعوته للمرأة المصرية للثورة على التقاليد البالية واقتحام
مجالات العمل المختلفة إلى جانب الرجل، حيث يقول:
وهذي بنات النيل
يعملن للنهى ويغرسن غرسا داني
الثمرات
إن هذا الاختلاف في رؤية الشاعرين راجع حسب محمد عويس محمد إلى اختلاف بيئة
الشاعرين، فحافظ إبراهيم كان محكوما في رؤيته بمعاناة الشعب المصري ورغبته في
تحريك هذا الشعب ليكون في حجم تطلعاته وموفعه من الحضارة الإنسانية، على خلاف أحمد
شوقي الذي عاش حياة مترفة مستقرة، فجاءت رؤيته هادئة تحتفي بصورة التاريخ وتخاطب
عقول المصريين عوض وجدانهم، مركزة على العلم والأخلاق. ومن هنا يتضح – في رأي
الناقد – ارتباط الشاعرين بواقعهما المصري، وإن اختلفا في المضامين الاجتماعية
التي عبرا عنها في شعرهما.
لتقريب وتوضيح هذه الفكرة استعان الناقد بمجموعة من مفاهيم المنهج
الاجتماعي وأهمها: (العلاقة الجدلية بين الأدب والواقع الاجتماعي، والرؤية
الاجتماعية، والمضمون الاجتماعي، والوعي الكائن، والوعي الممكن،...)، وهي تبرز
تطلعات الشاعر ورؤيته لواقعه الاجتماعي الممكن، وهي نتيجة اعتمد الناقد في بنائها
مسلكا استنباطيا، إذ انطلق من تصور عام، تمثل في التأكيد على العلاقة الجدلية بين
الشاعر وواقعه الاجتماعي ونسبية هذه العلاقة، لينتقل إلى استخلاص مجموعة من
النتائج الجزئية المترتبة عن هذا التصور العام. وهو بناء منح النص النقدي طابعا
إقناعيا أسهمت في تحقيقه أيضا أساليب الحجاج المختلفة التي توسل بها الناقد، مثل:
الحكم بتأثر الشاعر بالواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، والاستشهاد، من خلال
الاستشهاد بشعر كل من حافظ وشوقي، والإحالة المقامية "كشف عيوب الحياة
المصرية، فساد الزراعة والصناعة"، والتفسير كما في قوله شارحا تأثر الشاعر
بواقعه الاجتماعي: (وهذا التأثير أو التأثر نسبي يختلف من شاعر إلى آخر)، بالإضافة
إلى الموازنة حيث نجده يقارن بين نظرة شوقي وحافظ للواقع المصري، ناهيك عن التأكيد
عند حديثه عن شوقي مثلا:(فإن ما نعم به من حياة مترفة جعل نبض مصر عنده مستقرا)،
والتكرار (أما، الواقع الاجتماعي، الشاعر، المشكلة، مصر، المضمون،...). أما فيما
يتعلق بلغة النص فهي لغة تقريرية إخبارية مباشرة، تميزت بالاتساق والانسجام، بفضل
أليات الاتساق الموظفة، كأسماء الإشارة (هذا، هذه، ذلك...)، والضمائر(هو، هي، نحن،
...)، وحروف العطف (الواو، لعل، الفاء، أي...).
صفوة القول إن الناقد محمد عويس محمد تمكن من الكشف عن نسبة العلاقة
القائمة بين الشاعر وواقعه الاجتماعي، من خلال شعر حافظ وشوقي وفق المنهج
الاجتماعي ومفاهيمه، معتمدا، لأجل توضيح هذه العلاقة، على ثلة من الوسائل
الأسلوبية واللغوية أبرزها الاستنباط، منحت النص اتساقا وتماسكا، بل مكنت أطروحة
الناقد من امتلاك قدرة إقناعية واضحة، وهو ما يجعلنا نؤكد على أن الدراسة نموذج
نقي هام لتوظيف المنهج الاجتماعي في مقاربة الظاهرة الأدبية.