في سياق التحولات التي عرفها الشعر العربي الحديث تماشيا مع الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بالمشرق العربي، تولد عند ثلة متميزة من شعراء التجديد الوعي بأن وقوف شعراء البعث والإحياء عند حدود تقليد القدماء شكلا ومضمونا، من شأنه أن يسقط الشعر في مهاوي التصنع والتصنيع، ويعود به إلى أتون التكرار والجمود. واستجابة لهذا الوعي تولدت لدى أولئك الشعراء رؤية جديدة إلى الأشياء والإنسان والحياة، فانتظموا في عدة مدارس أدبية ، منها مدرسة "أبولو" التي تبنت الاتجاه الرومانسي إطارا ومرجعا لنظم الشعر، من خلال الاحتفاء بالذات والوجدان، والتطلع إلى عالم آخر من عوالم الطبيعة أو الخيال أو الموت... ويعتبر علي محمود طه، من أبرز شعراء هذه المدرسة، بحيث جاء شعره تجسيدا لتأملاته الخاصة عن الطبيعة والوجود، إلى جانب شعراء آخرين مثل أحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي...فإلى أي حد حافظت القصيدة موضوع التحليل على هذا النموذج ؟ وما مدى تمثيليتها لخطاب سؤال الذات عموما ؟
الملاحظة البصرية الخارجية للنص تكشف على أنه يبدو مخالفا لما ألفناه في القصيدة العمودية على مستوى شكله الهندسي، فقصيدة "غرفة الشاعر" اعتمدت نظام المقاطع، ونوعت في الأرواء (الكاف، القاف، الباء) وهي ولاشك، ملامح تجديدية في الشعر العربي الحديث.
أما عنوان النص فيوحي دلاليا بدلالات عديدة، حيث لفظة "غرفة" تحيل إلى مكان مخصوص، يوحي بالعزلة والخلود إلى ما يخالج الذات. وهذا ما جعلها مرتبطة بذات الشاعر بقرينة الإضافة، مما يوحي بأن الشاعر يقدم حالة أو لحظة زمنية عاشها في غرفته، مصورا ما ينتابه من مشاعر وأحاسيس وجدانية. وهذا دليل على أن القصيدة تدخل فعلا ضمن تجربة سؤال الذات.
إن قراءة النص تكشف على أن علي محمد طه يصور لنا حالته النفسية ونظرته للحياة وموقفه منها، حيث استهل قصيدته بتصوير حالته النفسية والجسمية التي أصبح عليها بفعل التفكير والسهاد. حالة سيتولد عنها استغراق الشاعر في همومه وأفكاره في انقطاع تام عن العالم الخارجي، ولاشك أن هذا الانقطاع عن العالم الخارجي ما هو إلا مظهر من مظاهر الكآبة والأسى التي جناها الشاعر من أفكاره وهمومه، في الأخير يقتنع الشاعر بأن الدنيا فانية لا تستحق كل هذه المعاناة، ويدعو نفسه إلى الخلود للنوم والراحة.
في ضوء هذه المضامين، نقف على جملة من المؤشرات النصية، منها: تعدد ضمائر المخاطب في النص (الكئيب، غارقا، رأسك، جفونك، أذبلت لست...)، وإن كانت كلها حقيقة دالة على نفسية الشاعر، مما أفرز نوعا من التطابق الكلي بين المتكلم في النص ومخاطبه. أما المعجم فقد جاء معبرا عن التيار الذاتي الرومانسي، حيث زاوج الشاعر بين ألفاظ وعبارات دالة على الذات الشاعرة ( الكئيب، الحزين، السهد، الأسى، ارتعاش، شجونك، أحزانك...)، وألفاظ دالة على الطبيعة الخلاص والمنقذ (الليل، حر، الرعد، الإبراق، الدجى، نهار، الخريف...)، كما يحضر الحقل الدال على الغرفة كذلك ( السكون، السراج، ضوء شاحب، الموقد، الصمت...)، ولا يخفى علينا من خلال هذه الحقول الحضور القوي للحزن، مما يعني أنه عنصر مهيمن على نفسية الشاعر، في توحد تام مع عناصر الطبيعة وما يرتبط بها من أزمنة وأمكنة (الليل، الحزن والكآبة، عتمة الغرفة).
خدمة لهذه المضامين الشعرية اختار علي محمود طه صورا شعرية موغلة في التخيل، مقارنة مع الصور التقليدية في الشعر القديم، حيث أنسنة الطبيعة والانزياح، من قبيل قوله مثلا: (قد تمشى خلال غرفتك الصمت...) الواردة في البيت السادس، والمجاز في الييت الثالث (يد تمسك اليراع...) أطلق الكل وأراد الجزء، فالأنامل هي التي تمسك القلم، (ليس يحنو الدجى عليك...) في البيت 12، إذ شبه الشاعر الدجى بإنسان له أحاسيس ومشاعر فحذف المشبه به ورمز إليه بالحنو،... وبالرجوع إلى المقطع الأول، بشكل كلي نكتشف أنه مشهد يصور الحالة النفسية الحزينة لشاعرنا طه.
أما من حيث الأساليب فقد جمع الشاعر بين الأسلوبين الخبري والإنشائي، فالأول استعان به للإخبار عن حالته النفسية ومعاناته، مثل (مسلما رأسك / يد تمسك اليراع / أذبلت جفونك...)، أما الثاني فيرتبط بانفعالات الشاعر والرغبة في البوح، من ذلك قوله: (أيها الشاعر الكئيب، آه يا شاعري، هلا فرغت من أحزانك ؟، فقم الآن...).
وبالعودة إلى إيقاع القصيدة الخارجي، نجد الشاعر بناها على وزن بحر الخفيف (فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن 2)،وقد التزم فيه الشاعر بالعروض الصحيحة والضرب مثلها، كما نوع في القافية بما يتماشى ودفقته الشعورية وتجربته الشعرية، فهي قافية مطلقة حينا، ومقيدة حينا آخر، في محاولة للتحرر من الشكل التقليدي، وتصوير شدة المعاناة، ساعد على ذلك تكراره لبعض الحروف بعينها (أرواء القصيدة، اللام، السين..) على المستوى الداخلي للقصيدة، وهي كلها حروف تمتح من معين الكآبة،، كما تكررت كلمات بالترادف (شجونك، أحزانك / الصمت، السكون / ناضب، ذابل...)، وتوازت الصيغ الصرفية، مثل: (جبين،أنين / طروب، خطوب...)وبعض الصيغ التركيبية ( مازلت غارقا في شجونك، مازلت سادرا في مكانك). ومن المؤكد أن كلا من التكرار والتوازي، قد أديا في هذه القصيدة، فضلا عن الوظيفة الجمالية، وظيفة تعبيرية، حيث تصوير وتأكيد التوتر النفسي للشاعر داخل الغرفة رفقة اليراع.
صفوة القول، يمكن اعتبار هذه القصيدة من النماذج الشعرية التي تعكس بعمق مضامين خطاب سؤال الذات لدى علي محمود طه، حيث أحدث فيها انزياحا عن أصول القصيدة الكلاسيكية، شكلا ومضمونا، ووصولا إلى المعجم اللغوي الذي يغترف من مألوف الألفاظ ومأثورها، والصور الشعرية التي نزعت نحو الخيال والأنسنة، مما يؤكد بحق، ريادة جماعة "أبولو"، تيار الشاعر، في ترسيخ التيار الذاتي الرومانسي في الشعر العربي الحديث.